ما هي قواك الخارقة؟

مقال نُشر في 13/4/2019

في أوّل أسبوع لي في التدريس الجامعي قيل لي: “ياما لك من قلّة الأدب والاستهتار.”

تتعامل في مجتمع الترجمة مع راشدين، قواعد التعامل هي القواعد الخلُقية والمهنية، وأعدادهم محدودة وتواصلك مع طرف واحد غالباً، واصغر من تعاملت معه كانت في السنة الثالثة في تخصص الترجمة. ثم وبعد اعتياد على هذا السياق الاجتماعي، أنتقل لسياق اجتماعي أوسع أقابل فيه يومياً ما لا يقل عن 100 كائن حيّ ( معدل الشعب ما بين 45 – 50 ، أدرّس ما بين 3 إلى 5 شعب )، ومع بداية كل فصل تصيببني عدوى في العين وتحسس في البشرة وإنفلونزا بسبب هذا التواصل مع هذا العدد الكبير.

مع هذا الاختلاط المكثّف بتلك الكائنات الغضّة، استكشفت أعمق الوجدان والإنسان. كانت الطالبات في البرامج التحضيرية، يعني أعمارهنّ ما بين 17 و20 ، للتو خرجن من تجربة 18 عام من الضبط الوالدي إلى عالم يمثل الصورة المصغرة عن العالم الخارجي. تكوين الشخصية وضبط الانفعالات وطريقة التواصل والسلوكيات وما يختلج الوجدان، كلّها غضّة وعفوية وتلقائية.

هذه التجربة تجربة تأمليّة، آسرة .. أجد نفسي أتامل تحوّلاتهن منذ اليوم الأول إلى الأخير، رؤيتهن للحياة، انفعالاتهنّ وتعبيراتهن الوجدانية. إنّ أوّل شعور غمرني وأرجو أنه لزمني شعور “الرحمة” ، حيث إنّه “تصبر على تعليم الجاهل رحمةً به، تُرشده للطريق شفقةً له.” وإذا علمتَ أنها جزء من رحمة الله تبارك وتعالى، تشعر بأنّك لا تطأ الأرض بل السحب. والشعور الذي تعمّدت عدم الالتفات إليه منذ البداية هو “الحب” ، إذ رغبت بالتيقن منه أولاً ثم التعبير عنه. ما توصلت إليه هو أنّه لا تستطيع أن تكنّ محبةً خاصّة لمئات الأشخاص، إلا أنّي اكتشفت أنّ المحبة العامة يمكن أن تسع الكل وتفيض حتى، فتسير باحثاً عمّن تمنحها له. لم أستطع أن أكره أي طالبة، ليس لدي وقت أصلاً للكره، لماذا أركّز على الكره وعندي ميدان واسع لبذل المحبة؟ .لا أستطيع أن أسمح لنفسي بأن أكره من يجرّب الحياة لوحده أوّل مرة، أغضب نعم وأُستفز لكن لا يجدر أن يشعر بذلك هذا المقبل على الحياة. أركّز على المحبة والرحمة لأنها تعني القبول والبذل والأمان والمجازفة والسياق سياق تعليم وتعلّم. إن علمت الطالبة أنّي أقبل بها وإن أخطأت، ستتعلم، إن علمت أني أحزم معها لأني أرحمها، ستتعلم، إن علمت أنّ هناك من سيعطيها بلا انتظار سوى أن تنجح في حياتها، ستتعلم، وستبذل أقصى ما تستطيع لتتعلّم وتجعل من العالم مكاناً أفضل للعيش.

وقفتُ مرّة أتامل الطالبات خلال حلّهن تمريهن ومناقشتهن إياه بينهن، في تلك الشعبة علمتً بوجود بعض الطالبات ممن لديهن مشكلات مع أهاليهن وصلت للنبذ. كانت تلك اللحظة مُلهمة .. “يا الله! من يُفرط بمحبة هؤلاء؟!” ولأقرّ أني أحياناً أطلب من الطالبة أن تعود لي بعد دقائق لأنها تتحدث بطريقة لطيفة جداً ستؤثر على قراري فيما ستطلبه. هل أُهلوس؟ أم أنّي ما زلت في لُجّة التجربة الأولى .. لكن مرّت ستة فصول دراسية وما زلت أجد ذلك! أجد في قلبي رحمةً ومحبة وتفاعلاً معهن، أجدني أستمتع بعفويتهنّ وسجيّتهن، أجدني أتّخذ من حالاتهن الخاصة مغامرة أرى فيها مدى قواي الخارقة بوصفي مدرّسة!

بعد ثمانية أشهر من التدريس، عُدت لتلك المجموعة وقلت: “قيل لي إني سأواجه كمية قلة أدب مهولة وكسل وإهمال. لم أرَ ذلك!” فكان التبرير: “دفعة هذا العام مختلفة في كل شيء.” لا، لسن مختلفات، هؤلاء بناتنا، البنات سكّر نبات، حتى السيئة منهن في هذا العمر لو وُجدت فلسوئها تفسير ولو أخذت بيدها لسارت معك.

One thought on “ما هي قواك الخارقة؟

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s