لماذا تتحدث النساء هكذا؟

كنّا، أخي وأنا، قبل سنوات في نقاش لغوي حول اللهجات وتصحيحها فعلّق أنّ الرجال حًماة الإرث اللغوي ونقلته للأجيال لأن للنساء نزعة لتنميق اللهجة وتخير الكلمات واستعارتها. لم أُوافقه لكن لم يكن لدي أسباب واضحة، ليس لدي إلا تجارب شخصية لا تُعمم حول نساء لطالما “صححن” لهجتي او تركنني أحوال فك رموز اللهجة التي لا أعرفها، وما أعرفه عن أنّ الطفل يتلقى نسبة كبيرة من حصيلته اللغوية خلال طفولته التي يقضيها مع أمه.

ومنذ حوارنا ذاك وأنا أرعي انتباهي لموضوع اللغة واللهجة وأبعادهما الثقافية بعضها من ضرب الخرافة وبعضها مدروس وموصوف، لكن انصرفت لاحقاً حتى طرق أستاذ سمعنا بهذه المقولة : “النساء هن من يحافظن على اللغات واللهجات، لماذا؟ لأن ذلك مدعاة لقبولهن الاجتماعي ومن أوجه محافظتها على تماسك العائلة.”

لم يكن في محيطي شيء من هذا القبيل؛ فالرجال والنساء على حد سواء يتنقلون بين مستويات لغوية تتراوح بين شديدة الرسمية وبين قويّة المحليّة، بينهما العربية المُكسرة، واللكنة الغربية وغيرهما. فعدتُ لمتابعة الأساليب اللغوية. وساعدني في ذلك بدايتي التدريس في بيئة من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية، حسناً .. ليست متنوعة جداً، لكن الاختلاف ملاحظ.

من أفضل ما قرأت في تفسير طريقة النساء في الحديث، مبني على أبحاث علمية، ما ذُكر في كتاب ،

“An Introduction to Sociolinguistics”

فصل

Gender and age

وفيه أنّ هناك أربعة تفسيرات لـ “السلوك اللغوي للنساء،” الذي يعني استخدام تعابير وكلمات تُعد أرقى ما بلغة مجتمعها أو لهجته، ألخصها بتصرّف هنا ولا غنى طبعاً عن الأصل:

إظهار المكانة الاجتماعية

تميل النساء لاستخدام طريقة الحديث الرسمية العالية لوعيها بأن طريقة حديثة تعكس مكانتها الاجتماعية، وذلك لقلة فرصة بعضهن في مظاهر الحظوة الاجتماعية الأخرى، ولإظهار رُقيهن، ومهنيّتهن أحياناً.

دور المرأة حامٍ حمى قيم المجتمع ( نسخة خاصة لأخي)

يُتوقع من البنات -أكثر من الصبيان- سلوكات مهذبة، كما تُوجّه البنت عند الخطأ أسرع من توجيه الصبي، وبذلك تُرى نموذجاً لقيم المجتمع التي تنشأ فيه، وهذا ما ستنقله -حين تصير امرأة- لأطفالها إذ هي قدوتهم في السلوك واللغة، مما حيّر بعض الباحثين في دراسة إذ وجدوا الأمهات يستخدمن أساليب لغوية عالية حتى داخل المنزل، حيث يُتوقع الأريحية والتخفف اللغوي.

أذكر في ذلك سيّدة تحكي عن تصحيحها اللغوي لابنها كيلا يقول كلمة تعجّب تقولها النساء، هذا الموقف لفت انتباهي لظاهرة لغوية وهي مدى تأثر الصبي بالسلوك اللغوي الذي يتعرض له في بيئته. أحد أساتذتنا كان إذا تكلم بالعربية استخدم أحياناً كلمات يشيع استخدامها بين النساء الكبيرات في السن -وهذا لا ينقص منه شيء- لأعلم لاحقاً أنه صبي ربته أمه وجدته بعد وفاة والده رحمه الله.

ينبغي للمجموعات المهمشة أن تتأدب

فالطفل ينبغي أن يتكلم بأدب مع الكبار، وكذلك النساء، بوصفهن مجموعة مهمشة، ينبغي أن تتحاشى الإساءة للرجل بان تتحدث بأدبٍ وحذر. ومما يتضمنه سلوكهن هذا إظهار للمكانة الاجتماعية المذكورة سابقاً، كما مُراعاتهن لمن يتحدثن معه ومقامه، رجلاً كان أو امراة.

العامية تعبيرٌ عن الرجولة

أحد الأسئلة المطروحة عن السلوك اللغوي للرجال كان “لِمَ لا يستخدم الرجال أساليب لغوية رفيعة -بالنسبة لمجتمعاتهم- كما النساء؟” فكانت الإجابة أن الرجال يُفضلون الأساليب العامية لما لها من إيقاع رجولي وخشن، فإن صحّت هذا الإجابة فهذا ما يُفسر تحاشي النساء العاميّة.

وهنا أعلّق حول ذلك أنّه يُمكن تخمين ما إذا كانت البنت قد تربت بين مجموعة أولاد من خلال طريقتها في الحديث. وأذكر نصيحة قديمة حول تعلّم اللغات وهو الاستماع للنساء ونطقهن لأنهن الأقرب للمستوى اللغوي المطلوب في الأكاديميا.

الكثير من الاستنتاجات والإحصائيات أخرى عن هذا الموضوع، ومنه أي الجنسين أكثر حديثاً، ومن نافلة القول أنه جزء من علم اللغة الاجتماعي ولا يُمثله كله وربما اختلفت الاستنتاجات – بإقرار المؤلفة – بين المجتمعات.

نُشرت هذه التدوينة على أراجيك

جمالية الأُلفة وإِلفُ

يُبنى تلقّي العِلم على معارف المُتعلم السابقة وهو ما يسمى “schemata” ، وقد تعرفتُ على هذا المبدأ من مصادر أجنبية أو لأقلْ جمّلته لي وتطبيقاته في التدريس هذه المصادر. فحين تشرح مفهوماً جديداً، قدّم له بما يعرفه الطالب ثم اربط بين هذه المعرفة القديمة والمعرفة الجديدة.

استثمرتُ هذا هذا المبدأ في بعض المفاهيم التي لا يتقبّلها الطلبة ابتداءً مثل الأفعال الشاذّة

irregular verbs

لأنها غير منطقية بنظرهم، أو المتلازمات اللفظية

“collocations”

لأن المفعول به في الإنجليزية يختلف عنه في العربية وإن اتفقت اللغتان في الفعل. فأقدّم للمفهوم بالعربية مما يألفه المتلقي، ثم ما يُشابهه في الإنجليزية فتسكن نفسه ويسير الدرس على ما يُرام 🙂 .

مع ذلك لم أجد فيما أعرف من كتب عربية حول التدريس والتعلّم والعلم ما يعرض هذا المبدأ بنفس تلك الجمالية التي وجدتها في المصادر الأجنبية. شككتُ بسعيي وليس باللغة وتراثها لأنها لا تُعدمه حتماً.

حتى وقعتُ يوماً على من يذكر كتاب “جمالية الألفة” للدكتور شكري المبخوت، علمتُ أنّه تونسي، ولأهل المغرب عموماً طريقة فريدة في تناول مباحث اللغة. بحثتُ عن الكتاب ولم أجده للأسف لا في الشبكة ولا في معرض الكتاب المُقام آنذاك. وفي حديث شجي مع صديقة متخصصة بالعربية حول الحياة وجمالياتها ذكرتْه ثم أكرمتني بنسخةٍ منه، وتكون تلك الجلسة آخر جلسة قبل جائحة كوفيد19.

منذ سنتين وأنا أقرأ في الكتاب قليل الصفحات نسبياً عميق العرض جميل السّرد. تشعر بالدكتور يُخاطبك بلغةٍ عاليةٍ تفهمها وتستلذ بها ولا تستطيع مجاراتها ولا تريده أن ينتهي. يحكي لك أنّ السّلطان في الخطاب للمتلقي وليس لك، ومهما بلغ علمك أقبِل على من يسمعك بما يألفه ويستحسنه ثم أبدع له بما تُريد، ثم يفيض عليك بظاهرة التقبل وأنواع المتقبّل والذوق والجمالية والمألوف. ثم وأخيراً يفصل لك فيما يتعلّق بالشعر الذي هو أصل إلف العربي لما يسمعه.

فضلاً عن عفوية بلاغته في العرض، هوامش المؤلف متنٌ آخر، ومما يشترك فيه مع نظرائه المغاربة الإحاطة بالمفاهيم وفلسفاتها حتى في اللغات الأجنبية -وغالبها بالفرنسية- فيعقد المقارنات القليلة أو يحيل القارئ ليتبحّر.

يقول د. المبخوت عن سبب تأليف الكتاب :” لهذا سعينا إلى تلقّط تلك المادة الغُفل من مظانها ووصلناها بنظرتهم إلى الكتابة عموماً طامحين إلى الكشف عن النظام الخفيّ الذي يشدّ ما تفرّق منها والأساس النظري الذي تقوم عليه.”

لم أعرّف بالكتاب بما يليق به، لا شك عندي في ذلك، وما زلتُ تحت تأثير جمالية هذه الفكرة التي عمِل عليها د. المبخوت حين كان الباحث يتنقل بين الرفوف بنفسه وينسخ بيده ويعيد مسوداته، صدر الكتاب عام 1993، مع ذلك أدعو لقراءته كلّ مهتم ببناء الخطاب والجمال اللغوي والنقد الحداثي، والمتخصصين اللغويين طبعاً قبل غيرهم.

وقفة

د. شكري المبخوت أكاديمي وروائي وناقد، نال عدة عدة جوائز عالمية وتُرجم له للإنجليزية والإيطالية، ومن محكّمي قائمة البوكر الطويلة بالعربية، وعمره الآن 59 عاماً. يا لها من حياةٍ عريضة.

التدوينة الأصلية على أراجيك

لانغويش: غمامة الكورونا

عُدنا للعمل الحضوري بعد عامٍ وأشهر من العمل عن بُعد. لم أتوقع من نفسي الاشتياق إلى مسابقة الوقت للوصول إلى المحاضرة قُبيل موعدها، أو الجلوس في المقهى القريب والاستمتاع بمناقشات الطالبات وأحاديثهن. إلا أنّ نفسي راكِدة؛ أُلزم نفسي إلزاماً بالحديث والتواصل إذا انتبهتُ لصمتي. أمّا المُحاضرات فالجُهد فيها مُضاعف لأني لا أحمل نفسي عليها فقط، بل حتى الطالبات وذلك مما ضاعف الشعور الغريب بالوهن. غمامة غريبة كانت تُظلّهن أيضاً؛ حالة من الشرود والسرحان، لكن حتى حين تنتهي المحاضرة، لا أحد يتحرك! أوعزتُ ذلك إلى إرهاق اليوم الدراسي الطويل الذي ينتهي عند العاشرة تقريباً. وأنا كدتُ أعود للبيت في منتصف اليوم الدراسي عدة مرات بسبب غلبة الوَهن عليّ، أو ما يُشبهه. ظننتُ ذلك بسبب الكِمامة واختناقي بها خلال الشرح، فكان كل ما أريده هواءٌ نقيّ، إذ أشعر وكأني قد استنشقتُ غازاً أو كيراً ليحجب الإرسالات العصبية عن دماغي.
استغلّت الأسئلة الوجودية هذا الوضع بين الوهن والهلوسة فأخذت بالإلحاح. كان أمامها عام وأكثر لكن ما تزيّت إلا الآن فتجاهلتها لأنه ليس بي طاقة لبيزنطية بعضها. وكنتُ أنهي النقاشات والجدالات الواقعية بعبارات مثل: “نعم، أتفق، لم أفكر بعد، لم أتخذ موقفاً .. ”
وضعٌ يُشبه الطرفة القديمة إذ يُحكى أن نجاراً كان قد كلّ من عمله، فأسقط مسماراً سهواً، فأفرغ علبة المسامير قائلاً: “أحضروا صديقكم.”
انقشعت الغمامة شيئاً فشيئاً، لكن أرّقني توقُ معرفة اسم هذه الحالة. وقد تعثّرت بها بينما كنت أبحث عن موضوع آخر منذ أسبوعين. اسمها

“languish”

أي الوَهن والذبول والتبلّد التي إن طالت تسببت بحالة أو الكرب،

“anguish”

وتشير لمعاناة ذهنية عصيّة. وقد سكّ الأولى عالم اجتماع معاصر.
كلا الكلمتين قديمتان، لكن بُعثتا لتُعرفا مفاهيم علمية، حيث انتقل المعنى من المعنى الذي وُضع له إلى المعنى المستجد، وبينهما تقارب، الظاهرة اللغوية التي تُعرف “بالتطور الدلال

(Semantic Change)

تسكن النفس أحياناً إن استطاعت وصف ما بها.
وإن أردت التعرف على ما أتعثر به أيضاً من شؤون اللغة والترجمة فدونك النشرة البريدية

An Arab Lost in Language