بين الترجمة والتدريس

أعتقد أن للترجمة دور فاعل في تغيير حياة كل من تعرّض لمنتجاتها بطريقة أو أخرى، الدين والفكر والفن..حتى الحرب لابد أن تجد للترجمة يد فيها؛ والمُترجم هو بالضرورة مفكّر ومؤلّف ووسيط، قارئ وكاتب وشاهد؛ عدّة أدوار في شخصٍ واحد.

تدريس اللغة مختلف عن تدريس الترجمة أو ممارستها، وإن كانا غير منفكين خلال عملية الترجمة، إنما الغلبة في الترجمة لجوانب رئيسية هي ثانوية في تدريس مهارات اللغة، وفي تدريس اللغة التركيز على مهاراتها والترجمة فرع فيها.

مع ممارسة الأدوار المتعددة للمترجم وتضخم فصّيّ دماغه، يتشكّل لديك تصور أن دورك أكثر من كونك ناقل، وعليك أن تتحمل مسؤولياته باستحقاق. خلال استيعابي لهذه الحقيقة بدأت تدريس مهارات اللغة في الجامعة. عدّه البعض نقلة نوعية، ولا أعتبره إلا تغيّراً في طبيعة الدور الجديد للشخص الذي شكّلته الترجمة مع عوامل أخرى، أنا.

المراهقات اللاتي كُنت أتواصل معهن عبر منصة نون التعليمية، صرت أراهن أمامي، الطفلات اللاتي نعمل لحمايتهن عبر مشروع نبيه، هؤلاء أخواتهن، الرياديات والإعلاميات اللاتي قرأنا شذرات من معرفة لهن، ها هن يتشكّلن تحت عيني.

أجواء التدريس تختلف تماماً عن أجواء الترجمة، إذ أُضيف إليها مهمّة التربية، ومن اللطيف أني اكتشفت أن بين التدريس والتسويق علاقة طيّبة غير معلنة مما يسّر المهمة وإن كانت لا تزال تدهشني تحدياتها.

كنت أصبر على تفكيك نصّ، صرت أصبر على شكوى طالبة من صعوبة اللغة.

كنت أتخيّر الطريقة الأفضل للتعبير عن فكرة، صرت أفصّل الأسلوب الأنسب لشرح قاعدة.

كنت أتأثر بالنص حزناً وفرحاً وحماسةً، صرت أتفاعل مع الطالبات بأفراحهن وأتراحهن، وما لا شأن لي به أحياناً.

كنت أحاول أن أقدّم خطة لترجمة عمل، صرت أحاول إشعال القناديل المؤدية إلى المحطات التالية للطالبات.

كنت أشعر بأدمغة الطالبات في يديّ أشكّلها كيفما أشاء، كما أفعل بدماغ قارئ نصّي المترجم، فالجامعة المجتمع المصغّر للمجتمع الكبير الذي سندفع صغيراتنا إليه يوماً ما، وبحسب تعليمنا وأساليبنا وتوجيهنا سيكون المجتمع. فكما أعلّمها كيف تقرأ وتتحدث، أعلّمها كيف تفكّر وتفهم وتؤثر.

من الأمور التي أركّز عليها نبذ الترجمة خلال تعلّم اللغة، مرّة، في قاعة نائية ومحاضرة لن تنتهي قبل 2.45 ظهراً، شرحت للطالبات تأثير حاجز الترجمة على إدراك المراد من الكلمة أو المفهوم. شعرت وكأنما شيء انعتق، غدون أكثر ارتياحاً. خلال ملاحظتي لحلهن التدريبات شعرت بخفّة، برئتيّ ممتلئتين بالهواء النقيّ، بحرية ذهنية، وكأن خطواتي ليست فوق الأرض، هذا الشعور لم تمنحيه إلا الترجمة ومجال آخر، سُعدت أني وجدته في هذه التجربة الغضّة وبدايتها.

وهذا مما أرجو أن ينتقل للطالبات؛ أن تجد خفّةً روحية وتمتلئ بالهواء النقيّ وتتمتع بالآفاق الفكرية كلما انخرطت في معرفةٍ ما تشبهها أو كانت تقوم بمهمّة على سراط رسالتها.

نُشرت بتاريخ 24/7/2017

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s