إخلاء طرف | 1 صلاة الشكر

برزخ، أحب هذه الكلمة، وكأنها محطة انتظار طافية لتنتقل من عالمك السابق لعالمك الجديد دون عودة، حالة من اللاشيء، مطمئن لما فات ولتجاوز ما سيستقلبلك مخيّلتك، لا تنشغل به. ومن البرازخ التي عشتها الخميس الماضي، حيث أخليتُ طرفي الأربعاء من مقر عملي السابق، ولمّا يصدر قرار توجيهي للجديد، فصرتُ في برزخ.

دلفتُ استقبال المبنى السابق، إذ لا بد من إثبات تقيّد الحياة بي بإثبات الحضور. أوّل فكرة طرأت لي: لو حصل لي طارئ، وفارقت الحياة قبل إثبات حضوري، في هذه المرحلة البرزخية، ماذا سيُكتب في جهة عملي؟ لا أريد طبعاً أن يُكتب أني فارقت الحياة على أرضية المبنى أو مصعده أو عتبة المكتب المسؤول.

كنتُ قد أنهيت فعلاً كل أعمالي ومهامي منذ منتصف رمضان، آخر مرّة أقدم محاضرة لبرنامج تحضيري، آخر مرة أرصد الدرجات له، آخر مرّة أختم آخر وحدة في منهجه، أواخر وأواخر.. شعور حزين صغير أطلّ على قلبي حينها، لم أطرده لكنه اختار أن يتبدد. هذه سنة الحياة، التحولات والتنقلات، الخواتيم والبدايات، وكل من ثبت، جَمَد، ولم أكُن وحدي فيما مضى، أهلي وأساتذتي والصديقات رافقوني مغامرات ذلك العالم.

أقول مغامرات لأن كل يوم جديد يحمل معه تحدياته، انتصارات صغيرة على مدار اليوم، وهزائم أصغر تحاول تعويضها اليوم التالي.

كنتُ أظنّ أنه سيحصل شيء كوني إن أتممتُ تدريس ألف طالبة، فاللذي حصل أني طمحت للوصول للطالبة التي تتم الألف العاشرة، وانتقلت الرغبة من متابعة دورات معتمدة إلى الحصول على رخص مهنية، ومن تدريس ما أطمئن له من مواد إلى ما أتحاشاه.

من يسعد أكثر من الطالبات عند حصولهن على درجات مرتفعة؟ أمي، لأنها دائمة الدعاء أن ينصرهن الله عليّ، بالرغم من أن انتصارهن عليّ هو تمكنهنّ على المعايير الموضوعية في تقييم المادة.

حين أمرّ بيوم طويل وكل ما أريده هو الاسترخاء خلال وقت الاستراحة أو الساعة المكتبية فتأتي طالبة وأتذكر وصية أخي بأن الأستاذ لا يستطيع تحديد حاجات الطالب النفسية والاجتماعية من التواصل مع أستاذه، فلا يكن المنهج هو الصلة الوحيدة بينكما. وما زلت أحاول بناء صلات أخرى.

مقولة أحد أساتذتي :” [ننحاز للعلم والتربية، ونكبت حظوظ النفس وانتصاراتها].” أطفأت كثيراً من ردود فعلي، كما أن الفئة العمرية التي تأتي منها طالباتي آنذاك للتو استبدلت فستانها المنفوش وارتدت الزيّ المحايد وما زالت تحب الحلوى وتستخدم الجوال خفية فرضت عليّ رحمةً لا أدري كيف صبغتني، وهذه مقولة أخرى لأستاذ آخر :”[انظر لطالبك بعين الرحمة، فإذا رحمته استطعت تعليمه ورفعت الجهل عنه.]”

مررتُ بمنطقة القاعات التي قطعتها ذهاباً وعودة، هرولةً وزحفاً، صباحاً بُعيد الفجر ومساءً قُبيل العاشرة، لم تتراءَ لي الطالبات، لم أسمع “يا حادي العيس” لم يخطر لي ” وما حبّ الديار شغفن قلبي” .. نفسي ساكنة ومُطمئنة، لم تحزن ولم تفرح، ولو قيل عودي لما مضى لن أعود طبعاً، ما قطعنا ما قطعناه هوناً، حتى الإخفاقات كانت دروساً تعلّمتها ولو كان بيدي أن لا أخفق لفعلت طبعاً.

لكن خطر لي الأستاذ عمر فرّوخ، ومقالاته حول التعليم ومما علق في نفسي من رأيه أن الطالب ربما لا يعرف أن مصلحته في العلم هذا أو المفهوم ذلك، لكنك معلماً تعرف، وهذه مسؤوليتك ولو لم يُنصّ عليها.

صليت الصلاة الأخيرة في المبنى، وشكرتُ الله على ما مضى، ثم خرجتُ على قيد الحياة مع عبارة “نجونا!” أستحث بها نفسي الساكنة لتشعر بشيء 🙂 فتحمستُ لأكتب أسبوعياً عن تجربة الأعوام الست، وهذه التدوينة بدايتها. وهنا شذرات منها.

صورة التدوينة عبارة وجدتها في دفترة متروك في القاعة التي راقبت فيها أوّل آخر اختبارٍ قبل إخلاء طرفي.

غُبار السنين

عُمر فرّوخ

دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع

أعتقد أن كل شيء لا يأتي إلا في وقته المناسب، مهما كان بشعاً، مهما كان سعيداً. أعرف غبار السنين منذ فترة طويلة، لكن لم تتسن لي قراءته إلا في رمضان 1437هـ، حيث بدأت بُعيد قراءته عملي في التدريس الجامعي. لم أقرأه لشخص كاتبه، عمر فروخ، بل لأنه عايش الفترة الاستعمارية للشام، بلده لبنان تحديداً، وبدا لي أن ذاكرته صافية جداً، تدور معظم المقالات حول العلم والتعليم والسياسة. تربى في عائلة علمية عاملة كل فردٍ فيها يتولى تربية الآخر، فهذا عمّه وذاك خاله وهؤلاء عماته. تراه يصرّح بمبادئه وأخلاقيته، وأنه لم يتخلّ عنها حتى حين تنقل في أوروبا، حتى أن من عرفه ائتمنه على بناته.

ما أدهشني أنه لم يذهب لأوروبا إلا وقد أتقن العربية والإنقليزية والفرنسية والألمانية، مع ميراث ضخم من التاريخ والتجارب، ولم يقبل منحة أي جهة خارجية، ووقف مع زملائه في وجه من رفض إقامة صف دراسي متقدم مما أثّر على قطع مرتباتهم. ليحكي لك لاحقا المآل المدهش لهذه الخطوات والمواقف والقرارات.

لا تعجبني جوانب أخرى عن فروخ، لكن لا أخفي إعجابي بعنايته بإتقان عمله واستقلالية مواقفه وثباته القيَميّ.

آراك

شوّال 38هـ

من قواعد العمل: تليفون خربان

تنهال عليك النصائح حين تبدأ عملاً ما من كل طرف، الإيجابية والسلبية، المُنقع منها والمُقنّع، الذاتية والموضوعية. هناك ما هو متعلّق بالمهمة ذاتها، وهناك ما هو متعلّق بالعلاقات الإنسانية في بيئة العمل.

ما أعتقده هو أن متطلبات المهمة ذاتها متعلقّة بك: ما تعرفه وما ترغب بمعرفته وتحسينك لأدائك، يعني تبدأ بك وتنتهي، هذا في العموم. أما سيرها فهو متعلق بالبيئة والعلاقات المحيطة. وفي هذه التدوينة سأركز على العلاقة مع العاملين في بيئة العمل.

سأحاول أن لا ألعب دور الأستاذ، إنما المُجرّب. في المجتمعات الإنسانية عموماً تتفشى ظاهرة “التليفون الخربان” ، وأقصد به أن الخبر يبدأ بجملة واحدة ( فُلان خرج قبل انتهاء الدوام) ، لينتهي بقصة درامية ( فلان خرج من الدوام لأن جاءءه اتصال أن أخاه تعرض لحادث وأمه أصيبت بجلطة قلبية وابنه غرق في بحر الرياض) أو ( فلان خرج قبل انتهاء الدوام لأن ابن عم خالة جده هو ابن جار المدير التنفيذي للشركة قبل عشر سنوات ).

ما السبب؟

النميمة والغيبة وتتبع عورات الناس. خرج فلان قبل انتهاء الدوام ما شأنك ولستَ مديره؟ خرج ما شأن زميلك لتخبره؟ خرج ما شأنك لتعرف لمَِ خرج وأين توجّه؟ تقول كلمة، يلتقطها زميلك ويضيف عليها أخرى، وزميل آخر يُبهّر، ورابع يُهلوس ويدمج هلوسته بما سمع، وأخيراً نحصل على سيناريو لشخص وصل بيته ونام في أمان الله.

يفعل بعض الناس ذلك لمجرد إثراء المجلس، لكنه لا يُدرك أن هذا الإثراء السخيف المنحط لا يضخ إلا الغِل والغيض في النفوس البشرية الهشّة التي ترزأ تحت مطحنة العمل ( ولي في ذلك رأي ليس هذا محل بسطه).

لطالما كررت امي الفاضلة عليّ هذه النصيحة، ووجدت نفعها طبعاً بأن كان رأسي هادئاً، لأقرأها مرّة في كتاب قواعد العمل (The Rules of Work) وملخصه الصوتيّ هنا حيث حذر الكاتب من عدة أمور، طويلة لكن مهمة جداً، منها: لا تنمّ، ولا تغتب ولا تفعل ما يخالف الأنظمة خاصة لرئيسك، فإذا ما فعلتها مرة ستفعلها مرة ثم مرة ثم مرة حتى تغرق وتصبح مثلهم.
موقف: مرّة خرجت من الدوام في وقتي المعتاد – المثبت في النظام – أمام العالمين، فسألت عني زميلة زميلة أخرى لا تعرف مواعيد دوامي لاختلاف التخصص لكن رأتني خارجة فأجابت: “خرجت .. ربما عندها موعد”. لأتفاجأ من الغد بزميلة لا علاقة لي بعملها لتسألني: “عسى ما شر! سمعنا إنك بالمستشفى .. عسى ما فيكم شي؟! ” .. لأعرف لاحقاً أن زميلة رابعة كانت مارة قدراً على الزميلتين السابقتين وسمعت جملة تلك.

ضحكت حقيقة، وتذكرني مثل هذه المواقف بالشياطين التي تسترق السمع فتأخذ الكلمة من السماء، وكل شيطان يضع عليها ألف كذبة حتى تصل الأرض وقد تألّفت أقدار كاذبة تأسير الموهومين. وأتمثل بالبيت:

أنامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا …. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ أنام ملأ

نُشرت بتاريخ 3/4/2019

الموت في أمريكا (تجربة احتضار مُترجمة)

الموت في أمريكا Dying in America 

تدوينة كتبتها إليزابيث هانسون، أخت حمزة يوسف، حول تجربة الاحتضار التي مرّ بها والدها وشهدتها عائلته. نطق والدهما الشهادة قبل وفاته بأسابيع، وأوصى أن يُغسّل ويكفّن كما المُسلمين ويُدفن في مقابرهم. كتبتها قبل وفاة والدها بنصف ساعة فقط، ورأيتُ نقلها إلى العربيّة لما لامسته منّي ومشابهة التجربة والأوصاف لما مرّت به عائلتي مع والدي وجدّي لامي، رحم الله أموات المسلمين. 

النصّ:

أحضرنا والدي إلى البيت من المستشفى منذ أسبوعين ليقضي لحظاته الأخيرة بسلام. قيل لي إن سكرات الموت تستغرق ساعات أو أياماً قلائل إن طالت. واجه والدي هذه السكرات عدّة مرات إلا أنها كانت تنتهي دون وفاته. شهدنا أكثر من مرة مشهد الاحتضار حيث تجمّعت السيارات وسارع الجميع إلى غرفته ليكونوا قربه، تحوطناه وما ظنّنا إلا أنها أنفاسه الأخيرة، إلا أنها لم تكن كذلك إذ كان يعدّل جِلسته ويطلب ما يشربه أو النزول عن السرير. ودّعته خمس مرات على الأقل. لوالدي إرادة حديدة  خيّبت التنبوءات الطبيّة التي توقّعت وفاته منذ زمن طويل، وما زال صامداً رغماً عنها.

اختلفت ردود أفعال الأحفاد. أحدهم، وهو إبراهيم، يُلازم والدي في زياراته ممسكاً بيده مواسياً له. أما الآخر، وهو ابني عمر، فهو يهرع يومياً إلى غرفة والدي سائلاً إياه بصوتٍ عال” جدي، كيف حالك؟” أظن أن والدي يشعر بالاطمئنان نوعاً ما لأنّ شيئاً لم يتغيّر، ما دام هذا الطفل مهتماً على الأقل. أحد الأحفاد الصغار، ماثيو، كان خائفاً من رؤيته حتى اعتاد فكرة أن جده يحتضر الآن. صار الآن يتصرف كما لو كان محاميه، فإذا ما أرد الجد شيئاً، غير ممكنٍ ربما، كالنزول عن السرير في وضع يوحي بأنه في لحظاته الأخيرة، فإن ماثيو يطلب منا احترام أمنيته الأخيرة. يرى الأطفال أحياناً الأمور بنقاءٍ شديد.

لدينا انفصال عن فكرة الموت في ثقافتنا، وبما أنّي اعتدتها لفترة طويلة، بدأت لتوي إدراك حجم إنكار الموت. الموت الذي نخافه، الذي نحمي أطفالنا منه، الذي نحتجزه خلف أبواب المشافي.

رجانا والدي أن نخرجه من المشفى، وهذا ما فعله أخي وزوجته حيث استقبلاه برحابة في منزلهما. كان يعتقد والدي بأنه قد يُقتل فيها (وهذا ما كاد أن يحصل مرتين)، ولم نرد طبعاً أن يلفظ أنفاسه الأخيرة هناك. وما أرخص الموت حين يكون تجارةً في أمريكا. تُدرّ إطالة أمد حيوات النّاس عن مواعيد وفيّاتهم أموالاً طائلة وذلك بوضعهم تحت التمريض المنزلي وحقنهم بالمهدئات التي ستفوّت عليهم خوض أعظم حدث في حياتهم.

هل ذكرت الشركة (المتخصصة في الجنائز) واستغلالها مساعدة المتوفّى في انتقاله لمثواه الأخير؟

أقرب ما يمكن مقارنته بالموت، بظنّي، الولادة، حيث الاستعداد النفسي وآلام المخاض والمواعيد المباغتة التي لا يمكن لأحدٍ التنبؤ بها. هناك أيضاً سيل المكالمات من أفراد العائلة والأصدقاء القلقين المتسائلين “هل وُلد الطفل أم لا؟” لا فرق بين ذاك وما يحصل خلال انتظار الموت، إلا أن الرسائل النصيّة حلّت محل المكالمات والسؤال يصير “كيف حاله؟” تنازعني نفسي عند الرد على هذا السؤال لأن إجابته المنطقية “لم يمت بعد،” إلا أن لدينا الكثير من الأدبيات حول ما يتعلّق بالاحتضار والموت، فإن لم يكن في “لم يولد الطفل بعد،” بأس، فإنه ليس من المقبول اجتماعياً أن تكون مُباشراً بهذا القدر إذا ما تعلّق الأمر بالاحتضار. “إنّه يذبل،” أقصى ما يمكننا الإجابة به.

أقدر الذين لا يسألون إلا عن حالي، إذ أن ردّي المعهود هو “عالقة بالحياة،” أسير على سلكٍ رفيعٍ جداً، إلا أنّه ينقطع أحياناً فأهوي وأنهار.

الآلام التي تصاحب الموت تشابه تلك التي تصاحب الولادة حيث الآلام التي لا تحتمل هي التي تساعدك على الخروج من هذا العالم وكل ما تحبّه. إلا أنّ المشافي تُحاول تفاديه بأي ثمن. يضخونك بالمورفين، الذي يعجّل الموضوع، كما يكتفي مسؤول التخدير بالتخدير الكامل لمنطقة الولادة لإماتة ألمها، أو الحقن بهرمون الأُوكْسِيتُوسين  ليُولد الطفل قبل أوانه. لا شك أنه لابد من الأدوية، إلا أنها أحياناً ليست إلا مُسكّنات، لا تُقارن منافعها بمضارّها.

أعطوا والدي المروفين ورأيته قد دخل في غيبوبة، ظللت ولمدة 12 ساعة ألحّ على الممرضات بأن شيئاً على غير ما يُرام قد حصل، وطالبت برؤية الطبيب، وأصررن على أن هذا طبيعي. هددتهنّ أخيراً بنزع الأنبوب عنه بنفسي، فأزلنه، ثم استعاد وعيه تدريجياً. قصرنا الآن تناوله المورفين بناءً على طلبه وذلك بعدما نبذل كل ما بوسعنا في سبيل راحته فلا تتحقق. يتناول المورفين في الليل أحياناً، وأحياناً أخرى تمرّ الأيام بلا أي جرعة منه. لم يتناول والدي في حياته أية أدويّة، ويفضّل أن لا يتناولها الآن. لحظاتنا التي نقضيها معه لا تقدّر بثمن إذ يكون رائقاً صافيَ الذهن، وهذا يحصل حين لا يكون نائماً. بخلاف ما يحدث الآن حيث ينام كثيراً.

لتأتي بعد ذلك مهمة إعداد المرء نفسه للحظة التي لا يمكن تفاديها ولابد علينا جميعاً مواجهتها. كُنت ضد إخبار والدي بأن حالته ميؤوسٌ منها، إلا أن إخوتي قرروا ذلك. أعتقد أن الناس تُدرك ذلك بنفسها، إذ كيف بالإنسان أن يحتضر ببطء فلا يعرف ذلك؟ أشبه ذلك بالمرأة التي تعرف أن زوجها يخونها، فإذا ما ظهر الأمر للعيان قالت إنها كانت تعلم بذلك إلا أنها لم تتمكن من السماح لنفسها بتقبّل الأمر حتى تستعد له. سلبت إحداهن فؤاد زوجها كما يسلب الموت حيواتنا. نقبل بهذا الواقع حين نستعد له ولا يليق أن يكون إدراكه متعجّلاً. يصير الواقع عقوبةَ إعدام إذا ما فُرض قسراً. يقول الطبيب “إن أمامك أسبوعان لتعيشهما،” فيموت المريض في الصباح التالي. يتكرر هذا السيناريو كثيراً وقد سمعته بنفسي. إرادة والدي صارت تتراخى شيئاً فشيئاً، الإرادة الحديدية التي لم تُقهر طوال 89 عاماً.

في أحد الأيام، وحين ظننا أن النهاية اقتربت، كان علينا التهيؤ لاستعدادات دفنه. وجدنا مقبرة جميلة بالقرب من المحيط – وكان والدي يُحبه – وأسعدنا أن نجد له مكاناً كهذا ليرقد فيه. إلا أن القبور كانت قد بِيعت. إلا أننا تمكنّا، ويا لها من معجزة، أن نشتري إحداها من طرفٍ ثالث عن طريق وسيط عائلي. يزدري والدي الشركات التي تتولّى ما تعلّق بالأدبيّات العامّة والأعراف وكذلك أبناؤه. لن نُسلّم جنازة والدي لأي شركة ما استطعنا ذلك. هل أخبرتكم أن إحدى المقابر عرضت علينا سعراً مخفّضاً إذا ما اشترينا القبر قبل رحيله؟

لا نريد أن يُهمل والدي في المشرحة الباردة وحيداً، لأيّام، ثم يُشيّع إلى المقبرة على أكتاف غُرباء. إذن، إذا ما حانت تلك اللحظة، وإذا ما سار كل شيء كما خططنا له، سنُغسّل جسده في المنزل ونشيّعه بأنفسنا. يتطلب التشييع إذناً وشهادة وفاة طبعاً. عادة ما تتولّى المدافن هذه الأمور، إلا أنها لن تساعدك إذا لم تطلب خدماتهم كاملة. اتصلت بعدد منها حتى توصّلت إلى رجلٍ لطيفٍ اسمه رودني، في المدينة الأخرى، وأبدى استعداده لمساعدتي. وحين حان موعد دفع قيمة خدماته، لم يقبل منّي أي شيء. من يصدّق أن مندوب المبيعات في أحد المدافن هو الذي سيذكّرني، في خضّم التعامل مع هذه التجارة، بأنه ما زال هناك أناس أخيار؟

قلب والدي كل المعطيات في توقعات استمراره بالحياة، وفقاً للأبحاث الطبيّة الحالية على الأقل. كان له مزاج الآيرلندي الذي لا يعجبه السكون. كان يأكل الكثير من اللحم والبطاطس ويرفض أكل أي شيء أخضر، وقليلاً ما مارس الرياضة بعد تجاوزه الستين. وكما قلب كل معطيات استمراره بالحياة، قلب كل معطيات احتضاره وبدا جميلاً في ذلك. لطالما كان الجلوس إلى جواره نوعاً من الاستشفاء، يوماً بعد يوماً، ومشاركته هذه الأيام الأخيرة، دون أنابيب مزروعة ولا إزعاج متواصل من العاملين في الرعاية الصحيّة المُلزمين باتّباع الروتين الموحّد للتعامل مع كل الحالات حتى تنتهي. يترجّل والدي عن الحياة كما يريد في الوقت الذي يُريده، مُحاطاً بعائلته وأصدقائه حيث الإدراك العميق لعملية الاحتضار التي يسّرتها رعاية المسنين في المنازل. هذه العملية هي الطريقة الطبيعية لترك الحياة وليستفيد الأطفال ممن شهدها درساً لا يُنسى في إبداء الاهتمام والتلطف والاحتضار.

من قصائد والدي المفضلة قصيدة “وقفة عند الغابة ذات مساءٍ مثلج” لروبرت فروست. كان مأخوذاً بهذا الشطر تحديداً “لمن هذه الغابة يا تُرى؟ أظّن أنّي أعرف.” “أظن أنّي أعرف” تُشير إليه. غالباً ما يُداهمنا النّوم* قبل أن نحقق غاياتنا، وقد خططنا لها على الأقل. في حالة والدي، كان قد انتصف في كتابة كتابٍ حول مصداقية تأليف مسرحيات شيكسبير وعن مواقع مخطوطاتها الذي كان يعتقد أنها دُفت في جزيرة أوك في مقاطعة نوفا سكوتشا. كُنت أتطلع لقراءة كتابه، والآن سأبذل وسعي لأنهيَه لأجله.

تمهيد

رحل والدي أمس الساعة الثامنة مساءً ، بعد ثلاثين دقيقة من كتابتي لهذه التدوينة. كان رجلاً ألمعياً بقلبٍ من ذهب، وقد منحه الله أفضل خاتمة. لترقد بسلام، والدي العزيز..

* تقصد بالنّوم الوفاة، ويُعبّر عن النوم بالوفاة الصُغرى.

نُشرت الترجمة على منصة أكتب عام 2016

كيف هو شكل الحياة عند وحيدٍ أعزب؟

السطور التالية ترجمة لاعتراف امرأة اختارت أن تكون عزباء، باحت بهذا الاعتراف عندما وصلت سن السادسة والخمسين. (لم أجد الحساب الأصلي الذي نشر الاعتراف بالإنجليزية)

ترجمة نصّ الاعتراف:

“أبلغ من العمر 56 عاماً، ولم أتزوج قط.
وهذه حقيقة واقعي التي لا أستطيع البوح بها للآخرين.
كانت الحياة رائعة وممتعة حتى بلغت الأربعين. تطلعت حينها لماضيي ولاحظت كم التجارب الرائعة التي خضتها، إلا أن شيئاً ما كدّر صفو خاطري.
أدركت في سن الخمسين أن الحياة كانت لتكون أثرى لو أني شاركت تجاربي هذه مع أحدهم.
وفي سن الثالثة والخمسين بدا لي، وكم كان ذلك مرعباً، أن لا أحد معي لأخبره بقصصي والأهم أن لا أحد يخبرني قصصه، وهذا ما خسرته.

اعتلت صحتي واضطررت لتوظيف من يساعدني بما أنه ليس في حياتي من يمكنه ذلك، لأفيق على الصدمة الكبرى: سأبلغ منتصف العمر ولا أحد إلى جواري يمد يده لي.

لا أنكر أنه من الرائع أن تقضي بعض الوقت لوحدك مسترخياً لا ينغصّك شيء، إلا أنه وبعد ستٍ وخمسين عاماً أدركت أنّ البشر كائنات تحب الاجتماع، إذ نُريد المشاركة، نريد شعور بالحب، نريد أن نكون جزءاً من شيء يتجاوز أفكارنا الخاصة.

أعيش الحياة وحيدةً تماماً، وهي الحياة التي لا أنصح أيّ أحد بأن يعيشها، فالوحدة ألمٌ لا يُحتمل أحياناً.

لو عاد الزمن وقُدر لي اختيار أسلوب حياتي مرّة أخرى فلن أختار ما اخترتُه.”

نشرت بتاريخ:

01/02/2016

العَقد المِفصلي

مشكلات الشباب حول العالم في معظمها متشابهة وإن اختلفت بعض عواملها ومسبباتها، الاطلاع عليها يُيسر علينا معالجتها أو حتى الوقاية منها.

هذا الكتاب الممُيز -وأتمنى ترجمته يوماً ما- حصيلة سنوات من الاستقراء ومتابعة المرضى في عيادة كاتبته، د. ميغ. عنونته بـ ” The Defining Decade” (العقد المفصلي) لأن غالب مرضاها من الشباب العشريني. اختارت هذا العنوان لاعتقادها أن هذا العقد هو الذي يُحدد العقود التي تليه إذ هو الفترة الذهبية والحاسمة في اختيار طريقة الحياة والمهنة والتعليم.

Read More »