إخلاء طرف | 4 دوائر النجاة

هل تعلم ما هي ترجمة “الدنيا صغيرة!” علمياً؟ هي نظرية : على بُعد ست خطوات

The Six Degrees of Separation Theory.

بمعنى: أنّ أبعد شخص يمثل حلقة الوصل بينك وبين بغيتك هو الشخص السادس في شبكة علاقاتك، وأنتَ الأوّل بطبيعة الحال. تعرف محمّد مثلاً، ومحمّد يعرّفك على أحمد، الذي يعرف محمّد وعبدالله، فيعرّفهما على خالد، الذي ستتعرف عليه بعد سنوات إما عن طريق محمّد أو أحمد أو عبدالله، فيعرّفك على أبي إبراهيم بنفس اللقاء، الذي يمثل الشخص السادس، ربما يكون هو وجهتك أو يكوّن شبكتك الجديدة لما تريد الوصول إليه. هذا مثال مبسّط للغاية، وهو لأقصى عدد يفصلك عن ما تسعى إليه، وقد يكون أقل. .

تنطبق النظرية على ما يفصلك عن إنجازك أو أحلامك، أو أياً ما كانت غايتك، الواقعي بالنظرية أنّها تسير بطريقة شبكية، لا هرمية ولا لولبية ولا خط مستقيم. فوضى خلّاقة، المهم نصل للخطوة السادسة. هي استقرائية طبعاً وليست استراتيجية وضعية.

قبل أن أحلل شبكية علاقاتي وفقاً لهذي النظرية، أحب تقسيمها لدوائر تختلف باختلاف تصنيفات أصحابها. بعض الدوائر تتقاطع بحسبب ضرورتها؛ فالزميلة في دائرة الدراسة تقاطعت مع كونها الزميلة في دائرة العمل، ومرّ عليّ دوائر علاقات تكاد تكون تكتلت اسطوانياً، أختان مثلاً في دائرة العائلة، هما الزميلتان في دائرة الجامعة، هما الزميلتان في دائرة العمل، هما زوجتان لأبناء في دائرة عائلة أخرى .

وما كان هذا مستغرباً سابقاً، تتكتل الدوائر بطريقة اسطوانية كالمثال السابق أو تنتهي صلاحياتها لصالح دوائر جديدة. فطالبة معلمة الثانوية مثلاً قد تصير جارة لها، وطالب المرحلة الابتدائية مديراً لأبناء جارِ والده لاحقاً.

بعض الدوائر بطبيعتها سميكة، فالزمن هو الذي متّنها أو لأهميتها، كدائرة العائلة أو الأصدقاء أو الدائرة المهنية، ودوائر لا تكاد تُرى إلا إذا نُظر لها، تمثل أي علاقة سطحية وهي دائرة واسعة للغاية، تمرّ عليها سراعاً وربما تتجاوزها دون الانتباه لها، وأخرى مطاطية، يخرج منها من يخرج في أمان الله ويدخل من يدخل أهلاً به، وهي دائرة زمالة العمل, وربما نشأت عن هذه الدوائر دوائر أو داخلها، وهكذا تتعدد الدوائر وأغراضها.

ما أهمية حديث الدوائر الاجتماعية؟ أنها نجاتك. حين تخوض حياة العمل، تتذكر دائماً أنه هذه حياة متفرّعة عن حياتك الأصل ودوائرها، وأنها ليست غاية بحد ذاتها، والدوائر المهنيّة خارج نطاق عملك تُغذي دائرة العمل وترفع أفق رؤيتك، ودائرة الأصدقاء هي المستراح، ودائرة العائلة هي المقصد. تطغى بعض الدوائر أحياناً على بعضها، لكن الإدراك الذهني لتمايزها يساعدك على الموازنة بينها، ولا يمكن بحال، إذا ما أردت حياة صحية ومتزنة، أن تتخلى عن أي منها.

بداية عملي في التدريس كانت اللحظات كثيفة للغاية، تفيض من روحي جمالاً أحياناً ورهقاً أحياناً أخرى لطبيعته، فتلقّتها دوائري الاجتماعية الأخرى لكلٍّ منها جانب، حتى أنّي أنشأت موقعاً جغرافياً لمكتبي أسميته

“the Outer Space” * | الفضاء الخارجي

وكأنه عالم موازي أصعدُ إليه، أجمع ما أجمع، وأنثر ما أنثر، ثم أعود لأحكي ما رأيت فيه، كيلا أفوّت معايشتي له ولا أنغمس فيه تماماً، فكنت حين أخرج من البوابة أقول الآن خرجتُ.

لطالما قدرتُ ثمار هذه الدوائر، ورغبتُ أن تحصل طالباتي على مثلها -وبعضهن شكّل فعلاً دوائر تجمعنا- خاصة وأن عملي لطالما تقاطع مع أعمال ومسؤوليات هذه الدوائر فلا أجد فيه إلا تعزيزاً لما بيننا أساساً، وكأننا نمسك بأيد بعضنا للمستقبل 🙂

لذا أستطيع القول إنّ من أهم أسباب النجاة في أي شيء، دوائرك الاجتماعية، ألم يطلب موسى عليه السلام من الله عزّ وجل أن “وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)” [طه] .. لم؟“اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا” [طه] .. كي يُعينه على ما هو مُقبلٌ عليه.

*اسم البقعة الجغرافية مُستلهم من كتاب “خارج المكان” لإدوارد سعيد، ترجمة صديقه فواز الطرابلسي، وقد أوصتني به زميلة دراسة الماجستير ا. مها، استغرق الأمر ثلاثة أشخاص ليصل خبر إدوارد سعيد لك، وربما خطوتين لتصل هذه التدوينة. كم هو صغير عالمنا!

إخلاء طرف | 3 كثافة اللحظة

ماذا يفعل الحُزن إن أنكرته وتجاهلته؟ سيتحوّر ليكون ألماً في جسدك أو غضباً متّقداً، أو ربما تراكم فأفقدك عقلك بعد سنوات. ماذا عن البهجة التي تتشكل من الاجتماع مع من تحب، أو سماع ضحكة طفل أو مُلاعبة حيوانٍ أليف، ثم تنهيها في منتصفها لتفاهتها المتناهية مقارنةً مع آلامك أو مسؤولياتك؟ ستموت تعيساً مُتعساً لغيرك.

حين تتعايش مع وطأة اللحظة الآنية، حزناً، قلقاً، سعادةً، دهشةً، حرجاً، حماسةً، ستفهم مشاعرك وتديرها وتتمكن من توجيهها وتجاوزها أو تحجيمها إن أضرّت. لن تحبسها في جسدك ولن تحرم روحك وستقبل على الحياة.

“عِش اللحظة” من الوصايا التي مرّت بي عام 2010 تقريباً. لديك اختبار؟ لا هروبك سينفعك ولا تقاعسك، ومتع الحياة تنتظر. حان الاختبار؟ ادخله وكأنه آخر معركة لك “أرِ الله من نفسك خيراً” ، النتيجة غير مرضية “ما على المحسنين من سبيل”، أرضتك النتيجة؟ .. أرأيت أنّ الأمر يستحق؟ وأن قلقك لم يكن يستحق أكثر من إقرار به والمضي رغماً عنه؟

وهذا من المبادئ التي بذلتُ وسعي للالتزام بها: أن أعيش اللحظة. لكن تطبيقاته مع الجماعات لم تكن كما كانت مع نفسي، إذ عليك أن تعيشها مع اعتبار عدة عوالم موازية:

لحظة التدريس، تتوازى معها لحظة إدارة الصف مع لحظة متابعة الانطباعات مع لحظات العوامل الخارجية المُفاجئة.

اللحظة التي لا أحب هي لحظة التخطيط للدرس، لكن إن لم أعشها ستُفسِد عليّ لحظة التدريس، التي تتبعها أمتع اللحظات عندي: لحظة التطبيق، هنا أرى أثر لحظة التدريس بالنسبة لي، التي هي لحظة التعلم بالنسبة للطالبة، أسمع الأمثلة وألاحظ الاستبشار على الوجوه أو تقطيب الجبين، ومحاولات الظفر أو الهروب، لحظة التطبيق هي لحظة إدارة الانفعالات في موقف تعليمي؛ الإنفعالات الإيجابية ستظهر، والسلبية (كالإحباط أو الصدمة) ستُحجّم وتحوّر لانفعال إيجابي.

لا يجوز معايشة كل شعور سلبي في لحظات الموقف التعليمي لأنّ المعلّم هنا يُعلّم مما يعلّمه الطالب التوجيه المستقر المطمئن حيال المادة أو المفاهيم خلال التعلّم. تفكّر بأي مادة تكرهها ومعاداة دارسيها، أكرهك لصعوبتها فعلاً أم لسلبية المعلم أياص كان مصدرها؟ السلبية تكون بتعليقات ساخرة مهينة أو بتأفف أو بنظرات ميتة، وقد تتصعد لعبارات مباشرة وأفعال كالطرد.

إلى أين تذهب المشاعر السلبية خلال اللحظات التعليمية؟ تباغتني في مناماتي، حتى تعلّمت تقنيات التنفس العميق، والخروج من المبنى لو للحظات إلى الشمس في الشتاء، أو التعرض للهواء البارد في الصيف، المشروبات الباردة أو الساخنة آخر الحلول، وأحاول وسعي أن أفعل ذلك في أقرب فرصة ممكنة حتى لا تتراكم أو تؤثر على سلامة حُكمي وانفعالاتي الأخرى.

بودي لو أقول إن كل ذلك إلهام ربّاني صِرف، لكن الواقع أنّه دون توفيق الله ثم الإعداد المسبق لمهمّة التدريس وإرشاد الخبراء الحقيقيين في مجال التعليم، والدورات التطويرية والعلاقات المهنية مع المختصين، لكنتُ تركت مهنة التدريس منذ العام الأوّل أو لأصبحت جحيمي المعجّل.

وهذا هو لُب هذه التدوينة:

دورات الإعداد المهني، ولو قيل عنها ما قيل المهم أنها معتمدة ويُفضل التنويع في البلدان مقدّمتها، تُعدّ ذهنية حاضرها ليكون مستعداً لهذا المجال أو ذاك. ففيها المعارف والمواقف والخبرات وكلها متخصصة.

الخبير الحقيقي في مجالك توجهُه إيجابي حياله وأقصد بالإيجابي أنّه يوجّه نظرك للقضايا الأهم والغايات النهائية، ويوصيك “اقرأ”، “اقرأ” لأنه يدرك أن في القراءة مجموع المهارات الأساسية للتعامل مع ما يواجهك، وينصت لك.

إن كنتَ تعرف شيئاً فقد غابت عنك أشياء؛ المختّصون في مجالاتهم ويتقاطعون مع مجالك هم “هيئة الخبراء”، هيئة المختصين هذه ستعينك بالمشورة والمصادر خاصة إن لم تكن جهتك تحفل بإرشاد موظفيها إرشاداً حقيقياً في بعض المواقف الضبابية، أتعرف ماذا أفعل حين لا يُشكل علي شيء أستعين عليه بهؤلاء الخبراء؟ أخبر طالباتي أنّ هناك ناجحين مغمورين أعانوني عليهنّ 🙂

الدورات التطويرية، وأقصد بها التي وُضعت لتسلط الضوء على العوامل المتداخلة في إنجاز العمل والنقاش فيها منهجي، أبصرتني موقعي بالنسبة للمستفيدين (الطالبات)، والخطوط الفاصلة بين دوري ودور الأخصائية الاجتماعية وحتى الأم والأخت (1) في الموقف التعليمي، وإدراك انفعالاتهن، كالغضب المفاجئ أو التضجّر، التعلّق ولفت الانتباه، أو أحوالهن النفسية، كالقلق المرضي أو الطبيعي والوسواس القهري وبوادر الاكتئاب، عدا عن الاحتياجات التعليمية الخاصة وهنا قليل عنها، بالإضافة إلى التي تبُصرني نفسي واحتياجاتها نظراً لطبيعة هذا العمل..

في كثير من المرات التي تُبالغ اللحظة في كثافتها وتطلبّها إياي فأتبرّم أو أراوغها، تخطر لي مذكّرات “هروبي إلى الحرية” لعلي عزّت بيغوفيتش عليه شآبيب الرحمات، متنوعة القضايا والاهتمامات وثابتة التوجّه، ليس هذا عجيبها، بل أنه كتبها في سجنه وأخفاها عند رفيقه وأخرجها مهرّبة.

ما زلت ُأخطئ وأصيب، وخطئي أكثر من صوابي، وفي كلّها أحاول معايشة اللحظة.

في الصورة أحد أساليب عيش لحظة التعلّم، أستضيف الجوالات عندي حتى انتهاء المحاضرة


دور الأم والأخت: يشيع في السياقات التعليمية تشبيه المعلم بأنه والد، والمعلمة بأنها أمّ، وذلك لمزجهما التعليم بالتربية و شخصيتهما التي تُشبه الوالدين، وهذا ما يفسّر أحياناً تجاوزهما دورهما التربوي في المدرسة وتجملها مسؤولية اجتماعية أوسع حيال الطلبة، لربما قُبل هذا من بعض الشخصيات بفئة عمرية محددة، لكن ليس من الأغلبية، ويفرض المجتمع أحياناً هذ التجانس بين الأدوار.

والواقع أن هناك فروقات دقيقة بين دور المعلم ودروه فرداً من أسرة الطالب ودوره مصلحاً اجتماعياً أو أخصائي نفسي في سياق عملي واحد، ينبغي عليه استيعاب إطارات كلّ دور واحترامها لأن التنقل المستمر بينها بكثافتها ومتطلباتها سيضيف عبئاً لا يستطيع معالجته بمرور الوقت، إلا في ظروف استثنائية.

إخلاء طرف | 2 فُسيفساء بشريّة

تخصصي الترجمة، أنقلُ الأفكار وأقولبها لمن يرغب بالتعرف على الآخر، وتدريس مهارات اللغة الإنجليزية كان الخيار الثاني، ولم أتصور أن تتقاطع برامج إعداد المعلمين مع الترجمة بالرغم من أنّ الموضوع بدا وكأني أدرس تخصصاً جديداً. لا أذكر أوّل محاضرة قدّمتها، لكن أذكر شعور الحماس المتصاعد يوماً إثر يوم حتى أرسلت بنهاية الشهر الأوّل لإحدى الشخصيات التي تركت الاشتغال بالتعليم: “لماذا لم تخبروني أنّ التعليم ممتع! أذلك سرّ تعاهدتهم على كتمانه؟ أكان تركك إياه حركة تمويهية!”

اتّفق أن تجربة التدريس لستة أعوام مرّت بالبرامج التحضيرية، البرامج التي تُعد معظم طلبة البكالوريوس لتخصصات معينة، وأعمار فئتها تتراوح ما بين 17 و19، يندر وجود أكبر من ذلك. لم تقل أعداد الطالبات في كل شعبة عن 55 طالبة إلا في فصلين منفصلين، وتقارب الثمانين في فصول أخرى. أرواح غضّة مقبلة على الحياة، تحمل إرث بيئاتها وقَسَمات أمهاتها وإيماءات آبائها.

كُنتُ كل يوم، من صبحه إلى مسائه، أقلّب ناظريّ في هذه الفسيفساء البشرية، أستطلع السِمات وأتتبع الأنماط، وبنهاية الفصل أتحقق من البيانات: أنتِ رفيقة أمك صحيح؟ لديكم أحفاد؟ أظن أنّ أحداً من أهلك يعمل بوظيفة تنفيذية، وأنتِ الجيل الأوّل الذي يتعلّم الإنجليزية، أمّا أنتِ فيبدو أنّك الأصغر، ألعائلتكم سَبق في التخصصات العلمية؟

وهناك ما لا يمكن مشاركته كملاحظة المُهملين، أو التائهين، أو حتى الناجين من حياة عبر نفق التعليم، أو من تعلوهم أمارات الاكتئاب والقلق، مُلاحظتهم كانت وصية أستاذة في الدبلوم التربوي :”اربتي على أكتافهن، لا تدرين أيّ كتفٍ مهمّشة ستشعر صاحبتها بقيمتها.”

كانت البرامج التحضيرية مقسمة لعدة مسارات، كل مسار يجتازه طلبته يتوزعون على عدة أقسام أكاديمية. برامج العلوم الإدارية، برامج العلوم الإنسانية، برامج العلوم العلمية، برامج اللغات والترجمة. تزيد وتنقص لكن هذه هي بالعموم. فيُطرح السؤال المعتاد: هل جميعهم في التخصص الصحيح؟ أم هو حكم الموزونات (1)؟

كُنتُ أخطط لكل شعبة على حده لأن لكل شعبة احتياجات نفسية واجتماعية مختلفة لها ارتباط وثيق بأساليب التدريس، حتى لاحظت أنماط شائعة في كل مسار، يندر أن يختلف، مما يُجيب على السؤال السابق: نعم، هم في المكان الصحيح وفقاً لما أنتجته البيئة والأسرة منهم. في لحظة إدراك الذات ستختلف دوافع الاستمرارية في هذا المسار أو ذلك، ونسبة قليلة سُتدرك أنّها ليست لهذا المسار ولا لها.

ما هي الأنماط الشائعة؟

النمط الأوّل: وداعة الروح

هناك نمط لطيف وأليف، عبارة عن تكتكلات اجتماعية، أولوليته الحفاظ على العلاقات والواجهة الاجتماعية للتكتل الذي ينتمي له، لذا ستجدهم ينتخبون قادتهم عفوياً، فهو الأعلم والأشجع وقت الحروب المتمثلة في الهمس بالإجابات، حل النشاط، رفع اليد، وحتى الاجتهاد بالفهم لأنّه المعوّل عليه في جلسات المراجعة الخصوصية قُبيل الامتحانات.

يحبون العمل الجماعي، وكل ما هو سوى الدرس، كريمون بأخلاقهم وأطعمتهم وأقلامهم، ينفذون إلى روحك ويفهمونها.

ما نتائج ذلك على الدراسة؟

بسبب مفهوم العيش الآني وبحبوحته الاجتماعية، تنخفض الرغبة بخوض التحديات المتمثلة بتعلّم لغة جديدة، والتعويل على فهم القائد يُلقي ستارةً على أفهام جنود الكتيبة، وضمان المساندة من الكتائب المجاورة وقت الاختبارات يُميت بِذرة خشية الإخفاق، فمحاولات الالتواء حول الأنظمة في هذا النمط هو “مساعدة اجتماعية”

ما الحل؟

الأنشطة الفردية التي تسمح بتعرف الطالبة على مستواها وما تستطيعه وحدها، والتقليل من الأعمال الجماعية إلى منتصف الفصل تقريباً، وربط درجة الطالبة بصحة إجابة صديقتها في الكتلة، وخلط التكتلات ببعضها، وثقتها بالأستاذة هي بوصلتها في التعلّم.

تخرج الطالبات منّ هذا المسار ليكنّ أخصائيات نفس أو اجتماع، أو يخدمن المجتمع، وهن بارعات في العلاقات العامة والتواصل والإعلام الجماهيري بكل أنواعه.

النمط الثاني: لا يصلح إلا للمعالي

يندر أن تجد في هذا النمط طالبة دون كاريزما وحضور، عددهن 70 في الشعبة الواحدة، ولكلٍ ملكوتها، ولا يُقررن بضعف أو نقص، لا يُنشئن تكتلات، إنما أحزاب قائمة على توافقات المصالح، فالتوجه البراغماتي عفوي فيه، تجمعهن الدراسة وتفرّقهن الحياة خارجها، ولا ضير، فالكل متّفق على قواعد اللعبة، فليس بالضرورة أن يكون حزب التفاعل في المحاضرة هو حزب الاستعداد للاختبار، وليس هما نفسه حزب إعداد العروض. طريق المستقبل واضح أمامها حتى لو لم ترد سلكه، المصلحة فيه، ومحاولات القفز على الإجراءات هي محاولة الحفاظ على الاستحقاق الذاتي لأن الحظ لم يحالف. والبوصلة فيها تفاوضية: كيف سأحصل على الدرجة؟ بقيادتك لي أو بالاعتماد على المنهج؟

كيف نتصرف مع هذا النمط؟

بإضفاء طابع إنساني على تجارب التعلّم، كالأنشطة التي تنتهي بإتمام كل أفراد المجموعة المهام المسندة، وتغيير القائد في كل عمل جماعي داخل القاعة، وإدخال أنشطة تحدّي تسمح للطالبة بطرح الاستفسار ومناقشة توقعاتها وفهمها مع زميلاتها، وأنشطة الاستبصار،

بنهاية الفصل الدراسي آخذ منهن تعهدات أن لا ينسينني حين يصلن لمواقع تنفيذية في الشركات، وأنهن سيدرن أموالي وأعمالي، ويُدخلنني في شراكات أعمالهن الخاصّة بلا عاقبة. أعني أنّهن سيدرسن الاقتصاد والعلوم الإدارية والمحاسبة وإدارة المخاطر وخلافه.

النمط الثالث: لماذا نحنُ هنا؟

يمثل هذا النمط العالم الموازي للنمط الأوّل، وهو النموذج الواقعي لمفهوم الفردانية، نماذج مصغّرة من علماء المستقبل، متقدمون في كل شيء؛ في اللغة والرياضيات والعلوم والمهارات عموماً، يسبقون أستاذهم بخطوتين وثلاث. أشعر بهم كل مرّة نقيم نشاطاً جماعياً متفاجئين من وجود كائنات أخرى، ويعضون على الدرجات بالنواجذ، وكل نقص ينبغي تبريره، وكل تبرير غير مقنع حتى يُختبر بكل المعادلات المنطقية والاحتمالات في هذا العالم وكل عوالم الغيب والشهادة. التحايل من الكبائر لأنّه سرقة لجهدها، وإضرار بسمعتها، لكنه إن حصل يحصل بطريقة احترافية، لا تفوت عين الأستاذ : )

لماذا نحنُ هنا؟

غالباً ما تكون حاجة هذا النمط للتجربة الإنسانية، لتجربة المسؤولية المجتمعية، لتجربة النقاشات ذات النهايات المسدودة أو متعددة الأوجه، لتجربة الظهور أمام العالم، وتبادل المشاعر الإنسانية كالتعاطف والغبطة، للتعرف على القصور الإنساني وتقبله. لذلك طبيعة الأنشطة جماعية يختلف أفراد المجموعة كل مرة، داخل القاعة أو خارجة، ونتيجة النشاط هو جهد الفريق كله، ومناقشة المكتسبات وتتبع أسباب الخسائر ووضع حلول لتفاديها المرات القادمة.

يخرج للعالم من هذا النمط عالمات الحاسب والمبرمجات والمطوّرات، عالمات الأحياء والكيمياء والفيزياء والرياضيات،

هذه الأنماط الأكثير شيوعاً، وهناك نمط رابع لم أتعامل معه لفترة طويلة فلم أشكل تصوراً عنه، عدا عن الأنماط الفرعية والتي قد تشترك فيما بينها ولو اختلفت الأنماط الرئيسية، علاوة على المبدأ الأساسي: أن لكل قاعدةٍ شواذ. ومن العجيب أنّ النمط الاجتماعي -مثلاً- سريانه في نمط العلوم الإنسانية مثلاً مختلف عن سريانه في نمط العلوم الإدارية. لنأخذ مثلاً الطالبة من مدينة أخرى؛ ففي مسار العلوم الإنسانية تُظهر هويتها وتقبل على التعرف على الآخرين، أما في العلوم الإدارية فهي تتطبع بطابع المدينة التي هي فيها لأنها هنا لغاية عملية محددة.

كل يوم هو مغامرة جديدة لرؤية الفُسيفساء البشرية وإعادتها أماكنها وتأملّ بريقها وتشكلاتها المتناغمة الخلّابة. أيّهن المفضل عندي؟ تلك التي انكسرت زاويتها، أو بهت لونها، أو ابتعدت عن منظومتها، أو طمرها التراب أو دكّتها الخطوات أو ضعف المزيج الذي يُثبتّها، ومُذ بدأتُ التدريس آمنت بعبارة الأمهات حين يقلن أنهن يحببن أولادهن بنفس القدر.

كتاب حوارات زيغمونت باومان وريكاردو مازيو حول التعليم مما رفدني في هذه المغامرات.

——–

الصورة لرسمة بالقهوة مهداة من موضي أبو دجين

(1) الموزونات: الدرجة الموزنة للقبول في الجامعة، تتكون من -على الأقل- من نسبة الثانوية العامة ونسبة اختبار القدرات العامة المستقل، ويؤخذ من كل درجة نسبة معينة بحسب الجامعة والتخصص المراد دراسته..