إخلاء طرف | 3 كثافة اللحظة

ماذا يفعل الحُزن إن أنكرته وتجاهلته؟ سيتحوّر ليكون ألماً في جسدك أو غضباً متّقداً، أو ربما تراكم فأفقدك عقلك بعد سنوات. ماذا عن البهجة التي تتشكل من الاجتماع مع من تحب، أو سماع ضحكة طفل أو مُلاعبة حيوانٍ أليف، ثم تنهيها في منتصفها لتفاهتها المتناهية مقارنةً مع آلامك أو مسؤولياتك؟ ستموت تعيساً مُتعساً لغيرك.

حين تتعايش مع وطأة اللحظة الآنية، حزناً، قلقاً، سعادةً، دهشةً، حرجاً، حماسةً، ستفهم مشاعرك وتديرها وتتمكن من توجيهها وتجاوزها أو تحجيمها إن أضرّت. لن تحبسها في جسدك ولن تحرم روحك وستقبل على الحياة.

“عِش اللحظة” من الوصايا التي مرّت بي عام 2010 تقريباً. لديك اختبار؟ لا هروبك سينفعك ولا تقاعسك، ومتع الحياة تنتظر. حان الاختبار؟ ادخله وكأنه آخر معركة لك “أرِ الله من نفسك خيراً” ، النتيجة غير مرضية “ما على المحسنين من سبيل”، أرضتك النتيجة؟ .. أرأيت أنّ الأمر يستحق؟ وأن قلقك لم يكن يستحق أكثر من إقرار به والمضي رغماً عنه؟

وهذا من المبادئ التي بذلتُ وسعي للالتزام بها: أن أعيش اللحظة. لكن تطبيقاته مع الجماعات لم تكن كما كانت مع نفسي، إذ عليك أن تعيشها مع اعتبار عدة عوالم موازية:

لحظة التدريس، تتوازى معها لحظة إدارة الصف مع لحظة متابعة الانطباعات مع لحظات العوامل الخارجية المُفاجئة.

اللحظة التي لا أحب هي لحظة التخطيط للدرس، لكن إن لم أعشها ستُفسِد عليّ لحظة التدريس، التي تتبعها أمتع اللحظات عندي: لحظة التطبيق، هنا أرى أثر لحظة التدريس بالنسبة لي، التي هي لحظة التعلم بالنسبة للطالبة، أسمع الأمثلة وألاحظ الاستبشار على الوجوه أو تقطيب الجبين، ومحاولات الظفر أو الهروب، لحظة التطبيق هي لحظة إدارة الانفعالات في موقف تعليمي؛ الإنفعالات الإيجابية ستظهر، والسلبية (كالإحباط أو الصدمة) ستُحجّم وتحوّر لانفعال إيجابي.

لا يجوز معايشة كل شعور سلبي في لحظات الموقف التعليمي لأنّ المعلّم هنا يُعلّم مما يعلّمه الطالب التوجيه المستقر المطمئن حيال المادة أو المفاهيم خلال التعلّم. تفكّر بأي مادة تكرهها ومعاداة دارسيها، أكرهك لصعوبتها فعلاً أم لسلبية المعلم أياص كان مصدرها؟ السلبية تكون بتعليقات ساخرة مهينة أو بتأفف أو بنظرات ميتة، وقد تتصعد لعبارات مباشرة وأفعال كالطرد.

إلى أين تذهب المشاعر السلبية خلال اللحظات التعليمية؟ تباغتني في مناماتي، حتى تعلّمت تقنيات التنفس العميق، والخروج من المبنى لو للحظات إلى الشمس في الشتاء، أو التعرض للهواء البارد في الصيف، المشروبات الباردة أو الساخنة آخر الحلول، وأحاول وسعي أن أفعل ذلك في أقرب فرصة ممكنة حتى لا تتراكم أو تؤثر على سلامة حُكمي وانفعالاتي الأخرى.

بودي لو أقول إن كل ذلك إلهام ربّاني صِرف، لكن الواقع أنّه دون توفيق الله ثم الإعداد المسبق لمهمّة التدريس وإرشاد الخبراء الحقيقيين في مجال التعليم، والدورات التطويرية والعلاقات المهنية مع المختصين، لكنتُ تركت مهنة التدريس منذ العام الأوّل أو لأصبحت جحيمي المعجّل.

وهذا هو لُب هذه التدوينة:

دورات الإعداد المهني، ولو قيل عنها ما قيل المهم أنها معتمدة ويُفضل التنويع في البلدان مقدّمتها، تُعدّ ذهنية حاضرها ليكون مستعداً لهذا المجال أو ذاك. ففيها المعارف والمواقف والخبرات وكلها متخصصة.

الخبير الحقيقي في مجالك توجهُه إيجابي حياله وأقصد بالإيجابي أنّه يوجّه نظرك للقضايا الأهم والغايات النهائية، ويوصيك “اقرأ”، “اقرأ” لأنه يدرك أن في القراءة مجموع المهارات الأساسية للتعامل مع ما يواجهك، وينصت لك.

إن كنتَ تعرف شيئاً فقد غابت عنك أشياء؛ المختّصون في مجالاتهم ويتقاطعون مع مجالك هم “هيئة الخبراء”، هيئة المختصين هذه ستعينك بالمشورة والمصادر خاصة إن لم تكن جهتك تحفل بإرشاد موظفيها إرشاداً حقيقياً في بعض المواقف الضبابية، أتعرف ماذا أفعل حين لا يُشكل علي شيء أستعين عليه بهؤلاء الخبراء؟ أخبر طالباتي أنّ هناك ناجحين مغمورين أعانوني عليهنّ 🙂

الدورات التطويرية، وأقصد بها التي وُضعت لتسلط الضوء على العوامل المتداخلة في إنجاز العمل والنقاش فيها منهجي، أبصرتني موقعي بالنسبة للمستفيدين (الطالبات)، والخطوط الفاصلة بين دوري ودور الأخصائية الاجتماعية وحتى الأم والأخت (1) في الموقف التعليمي، وإدراك انفعالاتهن، كالغضب المفاجئ أو التضجّر، التعلّق ولفت الانتباه، أو أحوالهن النفسية، كالقلق المرضي أو الطبيعي والوسواس القهري وبوادر الاكتئاب، عدا عن الاحتياجات التعليمية الخاصة وهنا قليل عنها، بالإضافة إلى التي تبُصرني نفسي واحتياجاتها نظراً لطبيعة هذا العمل..

في كثير من المرات التي تُبالغ اللحظة في كثافتها وتطلبّها إياي فأتبرّم أو أراوغها، تخطر لي مذكّرات “هروبي إلى الحرية” لعلي عزّت بيغوفيتش عليه شآبيب الرحمات، متنوعة القضايا والاهتمامات وثابتة التوجّه، ليس هذا عجيبها، بل أنه كتبها في سجنه وأخفاها عند رفيقه وأخرجها مهرّبة.

ما زلت ُأخطئ وأصيب، وخطئي أكثر من صوابي، وفي كلّها أحاول معايشة اللحظة.

في الصورة أحد أساليب عيش لحظة التعلّم، أستضيف الجوالات عندي حتى انتهاء المحاضرة


دور الأم والأخت: يشيع في السياقات التعليمية تشبيه المعلم بأنه والد، والمعلمة بأنها أمّ، وذلك لمزجهما التعليم بالتربية و شخصيتهما التي تُشبه الوالدين، وهذا ما يفسّر أحياناً تجاوزهما دورهما التربوي في المدرسة وتجملها مسؤولية اجتماعية أوسع حيال الطلبة، لربما قُبل هذا من بعض الشخصيات بفئة عمرية محددة، لكن ليس من الأغلبية، ويفرض المجتمع أحياناً هذ التجانس بين الأدوار.

والواقع أن هناك فروقات دقيقة بين دور المعلم ودروه فرداً من أسرة الطالب ودوره مصلحاً اجتماعياً أو أخصائي نفسي في سياق عملي واحد، ينبغي عليه استيعاب إطارات كلّ دور واحترامها لأن التنقل المستمر بينها بكثافتها ومتطلباتها سيضيف عبئاً لا يستطيع معالجته بمرور الوقت، إلا في ظروف استثنائية.

إخلاء طرف | 2 فُسيفساء بشريّة

تخصصي الترجمة، أنقلُ الأفكار وأقولبها لمن يرغب بالتعرف على الآخر، وتدريس مهارات اللغة الإنجليزية كان الخيار الثاني، ولم أتصور أن تتقاطع برامج إعداد المعلمين مع الترجمة بالرغم من أنّ الموضوع بدا وكأني أدرس تخصصاً جديداً. لا أذكر أوّل محاضرة قدّمتها، لكن أذكر شعور الحماس المتصاعد يوماً إثر يوم حتى أرسلت بنهاية الشهر الأوّل لإحدى الشخصيات التي تركت الاشتغال بالتعليم: “لماذا لم تخبروني أنّ التعليم ممتع! أذلك سرّ تعاهدتهم على كتمانه؟ أكان تركك إياه حركة تمويهية!”

اتّفق أن تجربة التدريس لستة أعوام مرّت بالبرامج التحضيرية، البرامج التي تُعد معظم طلبة البكالوريوس لتخصصات معينة، وأعمار فئتها تتراوح ما بين 17 و19، يندر وجود أكبر من ذلك. لم تقل أعداد الطالبات في كل شعبة عن 55 طالبة إلا في فصلين منفصلين، وتقارب الثمانين في فصول أخرى. أرواح غضّة مقبلة على الحياة، تحمل إرث بيئاتها وقَسَمات أمهاتها وإيماءات آبائها.

كُنتُ كل يوم، من صبحه إلى مسائه، أقلّب ناظريّ في هذه الفسيفساء البشرية، أستطلع السِمات وأتتبع الأنماط، وبنهاية الفصل أتحقق من البيانات: أنتِ رفيقة أمك صحيح؟ لديكم أحفاد؟ أظن أنّ أحداً من أهلك يعمل بوظيفة تنفيذية، وأنتِ الجيل الأوّل الذي يتعلّم الإنجليزية، أمّا أنتِ فيبدو أنّك الأصغر، ألعائلتكم سَبق في التخصصات العلمية؟

وهناك ما لا يمكن مشاركته كملاحظة المُهملين، أو التائهين، أو حتى الناجين من حياة عبر نفق التعليم، أو من تعلوهم أمارات الاكتئاب والقلق، مُلاحظتهم كانت وصية أستاذة في الدبلوم التربوي :”اربتي على أكتافهن، لا تدرين أيّ كتفٍ مهمّشة ستشعر صاحبتها بقيمتها.”

كانت البرامج التحضيرية مقسمة لعدة مسارات، كل مسار يجتازه طلبته يتوزعون على عدة أقسام أكاديمية. برامج العلوم الإدارية، برامج العلوم الإنسانية، برامج العلوم العلمية، برامج اللغات والترجمة. تزيد وتنقص لكن هذه هي بالعموم. فيُطرح السؤال المعتاد: هل جميعهم في التخصص الصحيح؟ أم هو حكم الموزونات (1)؟

كُنتُ أخطط لكل شعبة على حده لأن لكل شعبة احتياجات نفسية واجتماعية مختلفة لها ارتباط وثيق بأساليب التدريس، حتى لاحظت أنماط شائعة في كل مسار، يندر أن يختلف، مما يُجيب على السؤال السابق: نعم، هم في المكان الصحيح وفقاً لما أنتجته البيئة والأسرة منهم. في لحظة إدراك الذات ستختلف دوافع الاستمرارية في هذا المسار أو ذلك، ونسبة قليلة سُتدرك أنّها ليست لهذا المسار ولا لها.

ما هي الأنماط الشائعة؟

النمط الأوّل: وداعة الروح

هناك نمط لطيف وأليف، عبارة عن تكتكلات اجتماعية، أولوليته الحفاظ على العلاقات والواجهة الاجتماعية للتكتل الذي ينتمي له، لذا ستجدهم ينتخبون قادتهم عفوياً، فهو الأعلم والأشجع وقت الحروب المتمثلة في الهمس بالإجابات، حل النشاط، رفع اليد، وحتى الاجتهاد بالفهم لأنّه المعوّل عليه في جلسات المراجعة الخصوصية قُبيل الامتحانات.

يحبون العمل الجماعي، وكل ما هو سوى الدرس، كريمون بأخلاقهم وأطعمتهم وأقلامهم، ينفذون إلى روحك ويفهمونها.

ما نتائج ذلك على الدراسة؟

بسبب مفهوم العيش الآني وبحبوحته الاجتماعية، تنخفض الرغبة بخوض التحديات المتمثلة بتعلّم لغة جديدة، والتعويل على فهم القائد يُلقي ستارةً على أفهام جنود الكتيبة، وضمان المساندة من الكتائب المجاورة وقت الاختبارات يُميت بِذرة خشية الإخفاق، فمحاولات الالتواء حول الأنظمة في هذا النمط هو “مساعدة اجتماعية”

ما الحل؟

الأنشطة الفردية التي تسمح بتعرف الطالبة على مستواها وما تستطيعه وحدها، والتقليل من الأعمال الجماعية إلى منتصف الفصل تقريباً، وربط درجة الطالبة بصحة إجابة صديقتها في الكتلة، وخلط التكتلات ببعضها، وثقتها بالأستاذة هي بوصلتها في التعلّم.

تخرج الطالبات منّ هذا المسار ليكنّ أخصائيات نفس أو اجتماع، أو يخدمن المجتمع، وهن بارعات في العلاقات العامة والتواصل والإعلام الجماهيري بكل أنواعه.

النمط الثاني: لا يصلح إلا للمعالي

يندر أن تجد في هذا النمط طالبة دون كاريزما وحضور، عددهن 70 في الشعبة الواحدة، ولكلٍ ملكوتها، ولا يُقررن بضعف أو نقص، لا يُنشئن تكتلات، إنما أحزاب قائمة على توافقات المصالح، فالتوجه البراغماتي عفوي فيه، تجمعهن الدراسة وتفرّقهن الحياة خارجها، ولا ضير، فالكل متّفق على قواعد اللعبة، فليس بالضرورة أن يكون حزب التفاعل في المحاضرة هو حزب الاستعداد للاختبار، وليس هما نفسه حزب إعداد العروض. طريق المستقبل واضح أمامها حتى لو لم ترد سلكه، المصلحة فيه، ومحاولات القفز على الإجراءات هي محاولة الحفاظ على الاستحقاق الذاتي لأن الحظ لم يحالف. والبوصلة فيها تفاوضية: كيف سأحصل على الدرجة؟ بقيادتك لي أو بالاعتماد على المنهج؟

كيف نتصرف مع هذا النمط؟

بإضفاء طابع إنساني على تجارب التعلّم، كالأنشطة التي تنتهي بإتمام كل أفراد المجموعة المهام المسندة، وتغيير القائد في كل عمل جماعي داخل القاعة، وإدخال أنشطة تحدّي تسمح للطالبة بطرح الاستفسار ومناقشة توقعاتها وفهمها مع زميلاتها، وأنشطة الاستبصار،

بنهاية الفصل الدراسي آخذ منهن تعهدات أن لا ينسينني حين يصلن لمواقع تنفيذية في الشركات، وأنهن سيدرن أموالي وأعمالي، ويُدخلنني في شراكات أعمالهن الخاصّة بلا عاقبة. أعني أنّهن سيدرسن الاقتصاد والعلوم الإدارية والمحاسبة وإدارة المخاطر وخلافه.

النمط الثالث: لماذا نحنُ هنا؟

يمثل هذا النمط العالم الموازي للنمط الأوّل، وهو النموذج الواقعي لمفهوم الفردانية، نماذج مصغّرة من علماء المستقبل، متقدمون في كل شيء؛ في اللغة والرياضيات والعلوم والمهارات عموماً، يسبقون أستاذهم بخطوتين وثلاث. أشعر بهم كل مرّة نقيم نشاطاً جماعياً متفاجئين من وجود كائنات أخرى، ويعضون على الدرجات بالنواجذ، وكل نقص ينبغي تبريره، وكل تبرير غير مقنع حتى يُختبر بكل المعادلات المنطقية والاحتمالات في هذا العالم وكل عوالم الغيب والشهادة. التحايل من الكبائر لأنّه سرقة لجهدها، وإضرار بسمعتها، لكنه إن حصل يحصل بطريقة احترافية، لا تفوت عين الأستاذ : )

لماذا نحنُ هنا؟

غالباً ما تكون حاجة هذا النمط للتجربة الإنسانية، لتجربة المسؤولية المجتمعية، لتجربة النقاشات ذات النهايات المسدودة أو متعددة الأوجه، لتجربة الظهور أمام العالم، وتبادل المشاعر الإنسانية كالتعاطف والغبطة، للتعرف على القصور الإنساني وتقبله. لذلك طبيعة الأنشطة جماعية يختلف أفراد المجموعة كل مرة، داخل القاعة أو خارجة، ونتيجة النشاط هو جهد الفريق كله، ومناقشة المكتسبات وتتبع أسباب الخسائر ووضع حلول لتفاديها المرات القادمة.

يخرج للعالم من هذا النمط عالمات الحاسب والمبرمجات والمطوّرات، عالمات الأحياء والكيمياء والفيزياء والرياضيات،

هذه الأنماط الأكثير شيوعاً، وهناك نمط رابع لم أتعامل معه لفترة طويلة فلم أشكل تصوراً عنه، عدا عن الأنماط الفرعية والتي قد تشترك فيما بينها ولو اختلفت الأنماط الرئيسية، علاوة على المبدأ الأساسي: أن لكل قاعدةٍ شواذ. ومن العجيب أنّ النمط الاجتماعي -مثلاً- سريانه في نمط العلوم الإنسانية مثلاً مختلف عن سريانه في نمط العلوم الإدارية. لنأخذ مثلاً الطالبة من مدينة أخرى؛ ففي مسار العلوم الإنسانية تُظهر هويتها وتقبل على التعرف على الآخرين، أما في العلوم الإدارية فهي تتطبع بطابع المدينة التي هي فيها لأنها هنا لغاية عملية محددة.

كل يوم هو مغامرة جديدة لرؤية الفُسيفساء البشرية وإعادتها أماكنها وتأملّ بريقها وتشكلاتها المتناغمة الخلّابة. أيّهن المفضل عندي؟ تلك التي انكسرت زاويتها، أو بهت لونها، أو ابتعدت عن منظومتها، أو طمرها التراب أو دكّتها الخطوات أو ضعف المزيج الذي يُثبتّها، ومُذ بدأتُ التدريس آمنت بعبارة الأمهات حين يقلن أنهن يحببن أولادهن بنفس القدر.

كتاب حوارات زيغمونت باومان وريكاردو مازيو حول التعليم مما رفدني في هذه المغامرات.

——–

الصورة لرسمة بالقهوة مهداة من موضي أبو دجين

(1) الموزونات: الدرجة الموزنة للقبول في الجامعة، تتكون من -على الأقل- من نسبة الثانوية العامة ونسبة اختبار القدرات العامة المستقل، ويؤخذ من كل درجة نسبة معينة بحسب الجامعة والتخصص المراد دراسته..

إخلاء طرف | 1 صلاة الشكر

برزخ، أحب هذه الكلمة، وكأنها محطة انتظار طافية لتنتقل من عالمك السابق لعالمك الجديد دون عودة، حالة من اللاشيء، مطمئن لما فات ولتجاوز ما سيستقلبلك مخيّلتك، لا تنشغل به. ومن البرازخ التي عشتها الخميس الماضي، حيث أخليتُ طرفي الأربعاء من مقر عملي السابق، ولمّا يصدر قرار توجيهي للجديد، فصرتُ في برزخ.

دلفتُ استقبال المبنى السابق، إذ لا بد من إثبات تقيّد الحياة بي بإثبات الحضور. أوّل فكرة طرأت لي: لو حصل لي طارئ، وفارقت الحياة قبل إثبات حضوري، في هذه المرحلة البرزخية، ماذا سيُكتب في جهة عملي؟ لا أريد طبعاً أن يُكتب أني فارقت الحياة على أرضية المبنى أو مصعده أو عتبة المكتب المسؤول.

كنتُ قد أنهيت فعلاً كل أعمالي ومهامي منذ منتصف رمضان، آخر مرّة أقدم محاضرة لبرنامج تحضيري، آخر مرة أرصد الدرجات له، آخر مرّة أختم آخر وحدة في منهجه، أواخر وأواخر.. شعور حزين صغير أطلّ على قلبي حينها، لم أطرده لكنه اختار أن يتبدد. هذه سنة الحياة، التحولات والتنقلات، الخواتيم والبدايات، وكل من ثبت، جَمَد، ولم أكُن وحدي فيما مضى، أهلي وأساتذتي والصديقات رافقوني مغامرات ذلك العالم.

أقول مغامرات لأن كل يوم جديد يحمل معه تحدياته، انتصارات صغيرة على مدار اليوم، وهزائم أصغر تحاول تعويضها اليوم التالي.

كنتُ أظنّ أنه سيحصل شيء كوني إن أتممتُ تدريس ألف طالبة، فاللذي حصل أني طمحت للوصول للطالبة التي تتم الألف العاشرة، وانتقلت الرغبة من متابعة دورات معتمدة إلى الحصول على رخص مهنية، ومن تدريس ما أطمئن له من مواد إلى ما أتحاشاه.

من يسعد أكثر من الطالبات عند حصولهن على درجات مرتفعة؟ أمي، لأنها دائمة الدعاء أن ينصرهن الله عليّ، بالرغم من أن انتصارهن عليّ هو تمكنهنّ على المعايير الموضوعية في تقييم المادة.

حين أمرّ بيوم طويل وكل ما أريده هو الاسترخاء خلال وقت الاستراحة أو الساعة المكتبية فتأتي طالبة وأتذكر وصية أخي بأن الأستاذ لا يستطيع تحديد حاجات الطالب النفسية والاجتماعية من التواصل مع أستاذه، فلا يكن المنهج هو الصلة الوحيدة بينكما. وما زلت أحاول بناء صلات أخرى.

مقولة أحد أساتذتي :” [ننحاز للعلم والتربية، ونكبت حظوظ النفس وانتصاراتها].” أطفأت كثيراً من ردود فعلي، كما أن الفئة العمرية التي تأتي منها طالباتي آنذاك للتو استبدلت فستانها المنفوش وارتدت الزيّ المحايد وما زالت تحب الحلوى وتستخدم الجوال خفية فرضت عليّ رحمةً لا أدري كيف صبغتني، وهذه مقولة أخرى لأستاذ آخر :”[انظر لطالبك بعين الرحمة، فإذا رحمته استطعت تعليمه ورفعت الجهل عنه.]”

مررتُ بمنطقة القاعات التي قطعتها ذهاباً وعودة، هرولةً وزحفاً، صباحاً بُعيد الفجر ومساءً قُبيل العاشرة، لم تتراءَ لي الطالبات، لم أسمع “يا حادي العيس” لم يخطر لي ” وما حبّ الديار شغفن قلبي” .. نفسي ساكنة ومُطمئنة، لم تحزن ولم تفرح، ولو قيل عودي لما مضى لن أعود طبعاً، ما قطعنا ما قطعناه هوناً، حتى الإخفاقات كانت دروساً تعلّمتها ولو كان بيدي أن لا أخفق لفعلت طبعاً.

لكن خطر لي الأستاذ عمر فرّوخ، ومقالاته حول التعليم ومما علق في نفسي من رأيه أن الطالب ربما لا يعرف أن مصلحته في العلم هذا أو المفهوم ذلك، لكنك معلماً تعرف، وهذه مسؤوليتك ولو لم يُنصّ عليها.

صليت الصلاة الأخيرة في المبنى، وشكرتُ الله على ما مضى، ثم خرجتُ على قيد الحياة مع عبارة “نجونا!” أستحث بها نفسي الساكنة لتشعر بشيء 🙂 فتحمستُ لأكتب أسبوعياً عن تجربة الأعوام الست، وهذه التدوينة بدايتها. وهنا شذرات منها.

صورة التدوينة عبارة وجدتها في دفترة متروك في القاعة التي راقبت فيها أوّل آخر اختبارٍ قبل إخلاء طرفي.

بين الترجمة والتدريس

أعتقد أن للترجمة دور فاعل في تغيير حياة كل من تعرّض لمنتجاتها بطريقة أو أخرى، الدين والفكر والفن..حتى الحرب لابد أن تجد للترجمة يد فيها؛ والمُترجم هو بالضرورة مفكّر ومؤلّف ووسيط، قارئ وكاتب وشاهد؛ عدّة أدوار في شخصٍ واحد.

تدريس اللغة مختلف عن تدريس الترجمة أو ممارستها، وإن كانا غير منفكين خلال عملية الترجمة، إنما الغلبة في الترجمة لجوانب رئيسية هي ثانوية في تدريس مهارات اللغة، وفي تدريس اللغة التركيز على مهاراتها والترجمة فرع فيها.

مع ممارسة الأدوار المتعددة للمترجم وتضخم فصّيّ دماغه، يتشكّل لديك تصور أن دورك أكثر من كونك ناقل، وعليك أن تتحمل مسؤولياته باستحقاق. خلال استيعابي لهذه الحقيقة بدأت تدريس مهارات اللغة في الجامعة. عدّه البعض نقلة نوعية، ولا أعتبره إلا تغيّراً في طبيعة الدور الجديد للشخص الذي شكّلته الترجمة مع عوامل أخرى، أنا.

المراهقات اللاتي كُنت أتواصل معهن عبر منصة نون التعليمية، صرت أراهن أمامي، الطفلات اللاتي نعمل لحمايتهن عبر مشروع نبيه، هؤلاء أخواتهن، الرياديات والإعلاميات اللاتي قرأنا شذرات من معرفة لهن، ها هن يتشكّلن تحت عيني.

أجواء التدريس تختلف تماماً عن أجواء الترجمة، إذ أُضيف إليها مهمّة التربية، ومن اللطيف أني اكتشفت أن بين التدريس والتسويق علاقة طيّبة غير معلنة مما يسّر المهمة وإن كانت لا تزال تدهشني تحدياتها.

كنت أصبر على تفكيك نصّ، صرت أصبر على شكوى طالبة من صعوبة اللغة.

كنت أتخيّر الطريقة الأفضل للتعبير عن فكرة، صرت أفصّل الأسلوب الأنسب لشرح قاعدة.

كنت أتأثر بالنص حزناً وفرحاً وحماسةً، صرت أتفاعل مع الطالبات بأفراحهن وأتراحهن، وما لا شأن لي به أحياناً.

كنت أحاول أن أقدّم خطة لترجمة عمل، صرت أحاول إشعال القناديل المؤدية إلى المحطات التالية للطالبات.

كنت أشعر بأدمغة الطالبات في يديّ أشكّلها كيفما أشاء، كما أفعل بدماغ قارئ نصّي المترجم، فالجامعة المجتمع المصغّر للمجتمع الكبير الذي سندفع صغيراتنا إليه يوماً ما، وبحسب تعليمنا وأساليبنا وتوجيهنا سيكون المجتمع. فكما أعلّمها كيف تقرأ وتتحدث، أعلّمها كيف تفكّر وتفهم وتؤثر.

من الأمور التي أركّز عليها نبذ الترجمة خلال تعلّم اللغة، مرّة، في قاعة نائية ومحاضرة لن تنتهي قبل 2.45 ظهراً، شرحت للطالبات تأثير حاجز الترجمة على إدراك المراد من الكلمة أو المفهوم. شعرت وكأنما شيء انعتق، غدون أكثر ارتياحاً. خلال ملاحظتي لحلهن التدريبات شعرت بخفّة، برئتيّ ممتلئتين بالهواء النقيّ، بحرية ذهنية، وكأن خطواتي ليست فوق الأرض، هذا الشعور لم تمنحيه إلا الترجمة ومجال آخر، سُعدت أني وجدته في هذه التجربة الغضّة وبدايتها.

وهذا مما أرجو أن ينتقل للطالبات؛ أن تجد خفّةً روحية وتمتلئ بالهواء النقيّ وتتمتع بالآفاق الفكرية كلما انخرطت في معرفةٍ ما تشبهها أو كانت تقوم بمهمّة على سراط رسالتها.

نُشرت بتاريخ 24/7/2017

moi, je parle français

يُقال إنه كل لسانٍ تتكلّم به يكشف لك بعداً جديداً للعالم.

تعلّمت بعض كلمات بعض اللغات وقواعدها للمعرفة العامة. اللغة هي المنتج المنطوق لفكر الشّعب، الذي يحمل تاريخه وثقافته وطباعه. ولضآلة معرفني باللغات، لا تزال اللغة البوسنية تبهرني، تليها الكورية. اليابانية والمالطية والروسية أمثلة ممتازة لانعكاس فكر متحدثيها، حتى الفرنسية التي قررت تعلّمها مؤخراً تحمل ما تحمل – وستكون هذه التدوينة الطويلة لها.

خبت إعجابي بالفرنسية منذ فترة طويلة جداً، لذلك ليس من أسباب تعلّمها شغفي بها، وكنت أفضّل عليها الألمانية، لكن الأقدار ساقتها لي أولاً، ورغم كثرة التطبيقات والبرامج عن بعد، اخترت دراستها في المجلس الثقافي الفرنسي – حي السفارات.

قُبيل التسجيل كنت أفكّر بطريقة تجعلني أرى تعلّم اللغة بعينيّ الطالبة التي أدرّسها الإنقليزية التي تختلف طبعاً عن عينيّ حين كنت بعمرها لاختلاف الغرض، كما كنتُ أراجع منهجيتي في منع الترجمة كجسر لتعلّم اللغة.

المجلس الثقافي البريطاني حينها لم يكن يقدم دورات تناسبني، فتحوّلت البوصلة للمجلس الفرنسي، أغلقت من البريطاني واتصلت بالفرنسي، ليقول لي ا. خِضر إنه تبقى 3 مقاعد فقط – لا أدري إن كانت حيلة تسويقية لكن أشكره عليها : ) .

دخلت بذهنٍ خالٍ من أي تصورات أو مواقف مسبقة، حتى ما مررت عليه من نصوص فرنسية تناسيته، حاولت تركيز تفكيري على الموقف التعلّمي الجديد، رافقني خوف الخطوة الأولى، وحين بدأت المعلمة بالشرح والكلام ورأيت تفاعل بعض الطالبات معها، استحضرت أول أسبوعين في الكلية، وابتسمت لأن المشاعر ذاتها تكررت. انتهى اليوم الأول ولم أفهم أكثر من 10%. اليوم الأول أطول فترة استمتعت فيها للفرنسية: ساعة ونصف. أصبت بالصداع والهم. ولا تزال الفكرة الأولى عنها حاضرة: “الكلمة الواحدة فيها 15 حرف ولا يُنطق إلا خمسة حروف أو أربعة .” ولمّا اكتشفت الحقيقة انفرجت أساريري لكن ظهرت مشكلة أخرى.

انتظمت أسبوعين، 4 أيام في الأسبوع، ساعتين يومياً، عدا عن ساعات الدراسة بالبيت، كلما مال ذهني لاتخاذ موقف المعلّم المقيّم، أعدته لموقف الطالب، وظللت أراوح بين الموقفين، عدا عن الأسئلة القديمة والمواقف التي وجدت إجاباتها وتفسيراتها في هذه الدورة.

  • كنت أتساءل عن طريقة المصري في نطق الأبجدية العربية، فعرفت أنها مأخوذه من الفرنسية أيام الاستعمار.
  • في الإنقليزية نضيف لاحقة في بعض الكلمات إن أردنا الإشارة للأنثى، مثلاً: actor = ممثل، actrESS = ممثلة، وهذا قليل، أما في الفرنسية فكلمات كثيرة -في المهن خاصة- لها لاحقة للأنثى لكن لا تُنطق، ومجموعة كبيرة أيضاً -الحديثة نسبياً- لم يعد فيها هذا التفريق لتأثير الحركة النُسوية.
  • اللون الوردي بدرجاته كان للذكور والأزرق بدرجاته للإناث، لكن غيرت النُسوية هذا التقسيم، وفي الكتاب صورة لطفل ظنناه طفلة لارتدائه قميصاً وردياً، هل هذا بتأثير النُسوية أم أن الموازين لم تنقلب في فرنسا؟ عموماً، لم أرَ صحة استخدام هذا المثال المُخالف للعموم.
  • لاحظت – وهذه ملاحظة غير الخبير – أن الفرنسية لغة مُهذبة، أكثر بكثير من الإنقليزية، وكثير من كلماتها اللطيفة مؤنثة: بوتيك، بوفيى، باسترِى. ولفت انتباهي تأنيث بعض الأشياء كالطاولة والكرسي والسيارة، وتذكير الكتاب والسبورة والمقهى. أظن أن فكرة التذكير والتأنيث ستكون موضوعاً جيداً لدراسة لغوية – أحادية أو مُقارِنة مع العربية مثلاً.
  • الكلمات الفرنسية ليست طويلة الحروف قليلة الأصوات، لكن أجزاء الجملة طويلة، فهمت بعضها فتيسر تعّلمها. خُيّل لي -بادي الأمر- أنهم خلال الثورة نثروا محتويات جميع قواميسهم وكتبهم وتراثهم وأحرقوا ما استطاعو حرقه، ثم وبعد أن ذهبت الحشود لبيوتها، حاول اللغويون جمع ما تناثر وتركيبه كقطع البازل، وترا! ظهرت اللغة الفرنسية الحديثة.
  • ينسحب التخيل أعلاه على الأرقام أيضاً. ألفاظ العقود ترتيبها منطقي لكن لا أعرف سبب هذا الاختلاف بالتركيب. 88 مثلاً، تصير: 4*20 . 71 تصير: 60+11. 90 تصير 4*20 + 10. 93 تصير 4*20+13.
  • من المشكلات التي واجهتني أن اللسان الفرنسي لا تقرّ أغلب أصوات حروفه على مخرج، لكن سرعة النطق بها تناسبني جداً، ولأني أسرع من المعلمة نفسها كنت أضيّع بعض قطع البزل. لم تكن إذن كلماتهم طويلة، بل سرعة نطقها.
  • المشكلة الأخرى أنها مكتوبة بالحرف اللاتيني، كانت المعلمة صبورة جداً خلال قراءتنا الكلمات بالصوت الإنقليزي “اليابس” بالمقارنة مع ليونة الصوت الفرنسي.
  • هناك بعض الكلمات متطابقها مع الإنقليزية -لأصلهما الواحد – لكنها مختلفة الاستخدام، وهنا تظهر حساسية السياق في الترجمة ولم تكن ترجمة المعلمة دقيقة – لكن تؤدي المعنى.
  • المعلمة  فرنسية الأصل، كانت متّزنة، لم تكن نُسوية متعصبة، لم تكن فكرياً متعصبة لأي شيء أصلاً، على عكس ما يُقال – عن العربيات المتفرنسات على الأقل – لم تكن تتصنع إذ لابد وأن تسقط منك بعض التفاصيل التي تشي بجوهرك. درّست أختي معلمة فرنسية من أصل عربي، كانت تُصدر تصرفات بحساسية وتثير مواضيع لا تناسب السياق التعلّمي إذا كانت حاضرة، وأنا قابلت دكتورة من أصل عربي أثارت موضوع ديني وناقشته بهجومية عالية. بعضهن متفرنسات أكثر من الفرنسيات أنفسهن، لكن تعرفت على مغربيات وجزائريات صححن هذه الفكرة.

مما أذهلني:

  • خلال الاختبار الكتابي كُنت أفكّر باللغة الإنقليزية وليس العربية – وهذه نتيجة طبيعية لإدخال الترجمة في تدريس اللغة -.
  • بعد فترة من شرحها بالإنقليزية، يصير كلام المعلمة بالنسبة لي مبهماً.
  • المعلمة كانت تتكلم الإنقليزية على القواعد الفرنسية: لاحقة الجمع في الفرنسية لا تُنطق، فهي لا تنطقها بالإنقليزية، مثلاً: there are many student، بدلاً عن: studentS – نفس الذي يحصل مع الطالبات.
  • أضفت لوحة المفاتيح الفرنسية، واشتركت ببعض القنوات التي تعلمها، لم اشترِ اي كتاب إضافي إلا في النهاية إذ أغنتني المواقع. مع ذلك تتفوق المواقع الإنقليزية – كما المعلمات – في أساليب الشرح والتوضيح وضرب الأمثلة والتسلسل في الانتقال وموضوعيتها الغالبة.

بعد الاختبار قدمت للمعلمة بعض أنواع الطعام التقليدي -كنت قد أعددت هدية أخرى، لكن غيرتها في آخر لحظة- وكان ممتعاً كتابة وصف كل نوع!

ماذا سأفعل؟

الكثير، حتى أني شعرت بحماس فائق لاستقبال الطالبات وتدريسهن – ابتُليت بهن وابتُلين بي : )

نُشرت بتاريخ 2/8/2017

غُبار السنين

عُمر فرّوخ

دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع

أعتقد أن كل شيء لا يأتي إلا في وقته المناسب، مهما كان بشعاً، مهما كان سعيداً. أعرف غبار السنين منذ فترة طويلة، لكن لم تتسن لي قراءته إلا في رمضان 1437هـ، حيث بدأت بُعيد قراءته عملي في التدريس الجامعي. لم أقرأه لشخص كاتبه، عمر فروخ، بل لأنه عايش الفترة الاستعمارية للشام، بلده لبنان تحديداً، وبدا لي أن ذاكرته صافية جداً، تدور معظم المقالات حول العلم والتعليم والسياسة. تربى في عائلة علمية عاملة كل فردٍ فيها يتولى تربية الآخر، فهذا عمّه وذاك خاله وهؤلاء عماته. تراه يصرّح بمبادئه وأخلاقيته، وأنه لم يتخلّ عنها حتى حين تنقل في أوروبا، حتى أن من عرفه ائتمنه على بناته.

ما أدهشني أنه لم يذهب لأوروبا إلا وقد أتقن العربية والإنقليزية والفرنسية والألمانية، مع ميراث ضخم من التاريخ والتجارب، ولم يقبل منحة أي جهة خارجية، ووقف مع زملائه في وجه من رفض إقامة صف دراسي متقدم مما أثّر على قطع مرتباتهم. ليحكي لك لاحقا المآل المدهش لهذه الخطوات والمواقف والقرارات.

لا تعجبني جوانب أخرى عن فروخ، لكن لا أخفي إعجابي بعنايته بإتقان عمله واستقلالية مواقفه وثباته القيَميّ.

آراك

شوّال 38هـ

من قواعد العمل: تليفون خربان

تنهال عليك النصائح حين تبدأ عملاً ما من كل طرف، الإيجابية والسلبية، المُنقع منها والمُقنّع، الذاتية والموضوعية. هناك ما هو متعلّق بالمهمة ذاتها، وهناك ما هو متعلّق بالعلاقات الإنسانية في بيئة العمل.

ما أعتقده هو أن متطلبات المهمة ذاتها متعلقّة بك: ما تعرفه وما ترغب بمعرفته وتحسينك لأدائك، يعني تبدأ بك وتنتهي، هذا في العموم. أما سيرها فهو متعلق بالبيئة والعلاقات المحيطة. وفي هذه التدوينة سأركز على العلاقة مع العاملين في بيئة العمل.

سأحاول أن لا ألعب دور الأستاذ، إنما المُجرّب. في المجتمعات الإنسانية عموماً تتفشى ظاهرة “التليفون الخربان” ، وأقصد به أن الخبر يبدأ بجملة واحدة ( فُلان خرج قبل انتهاء الدوام) ، لينتهي بقصة درامية ( فلان خرج من الدوام لأن جاءءه اتصال أن أخاه تعرض لحادث وأمه أصيبت بجلطة قلبية وابنه غرق في بحر الرياض) أو ( فلان خرج قبل انتهاء الدوام لأن ابن عم خالة جده هو ابن جار المدير التنفيذي للشركة قبل عشر سنوات ).

ما السبب؟

النميمة والغيبة وتتبع عورات الناس. خرج فلان قبل انتهاء الدوام ما شأنك ولستَ مديره؟ خرج ما شأن زميلك لتخبره؟ خرج ما شأنك لتعرف لمَِ خرج وأين توجّه؟ تقول كلمة، يلتقطها زميلك ويضيف عليها أخرى، وزميل آخر يُبهّر، ورابع يُهلوس ويدمج هلوسته بما سمع، وأخيراً نحصل على سيناريو لشخص وصل بيته ونام في أمان الله.

يفعل بعض الناس ذلك لمجرد إثراء المجلس، لكنه لا يُدرك أن هذا الإثراء السخيف المنحط لا يضخ إلا الغِل والغيض في النفوس البشرية الهشّة التي ترزأ تحت مطحنة العمل ( ولي في ذلك رأي ليس هذا محل بسطه).

لطالما كررت امي الفاضلة عليّ هذه النصيحة، ووجدت نفعها طبعاً بأن كان رأسي هادئاً، لأقرأها مرّة في كتاب قواعد العمل (The Rules of Work) وملخصه الصوتيّ هنا حيث حذر الكاتب من عدة أمور، طويلة لكن مهمة جداً، منها: لا تنمّ، ولا تغتب ولا تفعل ما يخالف الأنظمة خاصة لرئيسك، فإذا ما فعلتها مرة ستفعلها مرة ثم مرة ثم مرة حتى تغرق وتصبح مثلهم.
موقف: مرّة خرجت من الدوام في وقتي المعتاد – المثبت في النظام – أمام العالمين، فسألت عني زميلة زميلة أخرى لا تعرف مواعيد دوامي لاختلاف التخصص لكن رأتني خارجة فأجابت: “خرجت .. ربما عندها موعد”. لأتفاجأ من الغد بزميلة لا علاقة لي بعملها لتسألني: “عسى ما شر! سمعنا إنك بالمستشفى .. عسى ما فيكم شي؟! ” .. لأعرف لاحقاً أن زميلة رابعة كانت مارة قدراً على الزميلتين السابقتين وسمعت جملة تلك.

ضحكت حقيقة، وتذكرني مثل هذه المواقف بالشياطين التي تسترق السمع فتأخذ الكلمة من السماء، وكل شيطان يضع عليها ألف كذبة حتى تصل الأرض وقد تألّفت أقدار كاذبة تأسير الموهومين. وأتمثل بالبيت:

أنامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا …. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ أنام ملأ

نُشرت بتاريخ 3/4/2019

حين تسعفك لغتهم | Catch 22

تظل بعض المشاعر والأفكار حبيسة حتى تجد لها القالب اللغوي الذي يعبّر عنها بدقّة. في كل مرّة أواجه هذا العجز أتّهم مستواي اللغوي، وليس اللغة، لا العربية ولا أي لغة أخرى أعرفها.

مما تكرر مؤخراً – الأعوام الأخيرة تقريباً – وجود وضع متأزّم، إذ يكون لدينا متطلب ما لا نستطيع الإيفاء به لأنه متعلّق بأمر آخر ولا يخرج المسؤول بحلول مرنة تناسب الوضع. مثل الطالب الذي لا يستطيع دراسة ريض 105 إلا بعد ريض 103، هذا المتطلب مفهوم لأن 105 يعتمد على ما تم فهمه في 103، الأزمة تكون حين لا يوجد من يدرّس ريض 103، فيتأخر تقدم الطالب ( أو الطلبة ) في الخطة الدراسية وبالتالي التخرج، ويحسب ذلك من المدة الدراسية المسموحة.

ولأقرّ أن من يؤزمون الأوضاع بمثل هذه الطريقة غير مستقرّين نفسياً ولا عقلياُ، أمرهم هذا لا علاقة له بتحفيز التفكير خارج الصندوق أو الخروج بحلول إبداعية ولا اتباع الأنظمة.

لا أنسى تلك المقيّمة الخارجية التي خصمت من تقييمي درجة استخدام “التقنية” في القاعة بالرغم من أن جهاز العرض ( البروجكتر) المثبت في القاعة متعطّل، واستخدامي Flipping class strategy (1) وأدوات أخرى مساعدة، الواقع أني كنت في غاية الحماس لإظهار الحلول التي أتينا بها لتجاوز أزمة التقنية داخل القاعة، لكن كان المقابل من رصيد درجات تقييمي.

لكن هذه المرة كانت مختلفة، إذ عوضاً عن أنّ أغرق في تفصيل الحدث وأكرر أنه “استعباط واستغباء” قلتُ: “Catch 22” ، شعرت بأن هذا المصطلح يعبّر عن الموقف بوضوح، وهو مصطلح تعرفت عليه خلال ترجمة كتاب هبة الألم ، ويعني:

مفهوم كاتش-22 (Catch-22): مصطلح سبكه الروائي جوزيف هيلير (Joseph Heller) عام 1961 عبر روايته التي تحمل المصطلح ذاته، ويعني الوضع المُشكل إذا كان حلّه لا يُمكن تنفيذه بسبب ظروف الوضع الذي تمنع هذا الحل. وأكثر ما يكثر في الأنظمة الحكومية، أي “داؤك منك ودواؤك فيك”.

خرجت الرواية على هيئة فيلم، ومن أراد التعرف على بعض المواضع التي تكون فيها المواقف كاتش ٢٢ سيجدها مجتزأة ومنشورة على يوتيوب.

المصطلح أجنبي عن لغتي الأم، لكنّه عبّر عن موقف، ومتقينة من أنّ في العربية نظيره إلا أن مستواي اللغوي عجز عن الوصول إليه حتى الآن.

ها قد وصلتَ نهاية التدوينة بسلام، هل تذكر لنا مواقف يصح إطلاق كاتش 22 عليها؟


————

استراتيجية الفصل المقلوب (flipping class strategy ): تعتمد على إعداد مواد للطالب يحضّرها قبل بدء المحاضرة بمدة كافية لتساعده على فهم محتوى المحاضرة ويتقدم في المادة. تتصف هذه المواد بأنه لا يمكن تقديمها في القاعة مثل المقاطع المرئية أو الصوتية لانعدام المعدات في القاعة أو تحتاج تعلّم ذاتي وصقل للمهارات.

ماذا حلّ بالعالم لمّا غبتُ عنه؟

تشكل نوع من الإدمان والمشكلات الصحية بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الاتصال الدائم بالشبكة، وكأنّه ستحصل كارثة لو غبنا 15 دقيقة عن التغريد أو لم نرد مباشرة على تنبيهات المحادثة، حتى طال الأمهات فإن لم ترد على اتصال أمك خلال 5 دقائق ستجد 25 مكالمة و60 تنبيه واتس أب ومنها و5 من أختك و2 من أخيك، والأم العزيزة هي من طلبت منهم تفقدك.

بسبب إدمان الحضور الدائم في الشبكات تطورت عندي اضطرابات النوم، تكرر الصداع، تشتت الذهن أكثر، القلق المتزايد من الانقطاع، ولا تسأل عن آلام الرسغ، والأدهى الحاجة الملحّة لتفقد الشبكات كل ربع ساعة وقراءة كل تدوينات الأصدقاء وكل الخلاصات وكل النشرات، والاستماع لكل الحلقات الصوتية ومشاهدة كل الفيديوهات المنشورة.

كنت أستفيد من هاتفي الذكي نعم، لكن يعرقل استثماره الأمثل هذا الإدمان مزعج، يعُلّقك بالعالم الخارجي حتى صرنا نغبط من ليس لديه حساب في الشبكات ولا حتى هاتف ذكي. نعم هناك من ليس لديه ذلك. أثر ذلك بطبيعة الحال على الإنتاجية والقراءة الجادة والاستمرار في المشاريع الشخصية، أما الاجتماعات العائلة فيُرثى لها.

حتى قضيت 120 ساعة بلا جوّال، فلما انتهت التجربة وجدت أن العالم كما هو عليه، لم يتهاوَ لما توقفت عن تفقده لسويعات.

كانت ذلك لما انضممت لبرنامح تدريبي يقدمه المدرب علوي عطرجي، كان من قوانينه منع استخدام الجوال، ومن يستخدمه يتعرض لغرامه قدرها 100 ريال تذهب للجمعيات الخيرية، وبعدد استخدامك يتكرر التغريم. لا يستطيع الأستاذ طبعاً متابعة متدربات القسم النسائي لكثرتهن، لكن مساعداته يتولين ذلك. وسقط بعض الضحايا طبعاً. كانت مدة البرنامج 50 ساعة مقسمة على أيام متوالية. اليوم الأول كان صعباً، الثاني أقل صعوبة، وفي الثالث نسيته تماماً. في الوقت ذاته كنت قد بدأت برنامج مدته 6 أشهر، بواقع جلسة واحدة أسبوعياً مدتها 4 ساعات. لم تمنع المدربات استخدام الجوال، لكنهن يُحرجنك بالنظرات حتى تدخله وتتصرف كأنك لا تملكه.

كنتُ أحتاج هذا الانقطاع، وأتطلع لثمرته. في الربع الأول من التجربة تقريباً توفي جدي رحمه الله، في فترة العزاء وضعت جوالي على العادة الجديدة في الحقيبة وجلست في المجلس. سُئِلت مرات عنه، ويتبع السؤال استغراب أني لا أحمله. خف الزوار، وجلست أتطلع حولي لمن قد أتجاذب معه أطراف الأحزان، لكنهم على جوالاتهم، فتعرفت على أختي من جديد.

لما بدأت العمل الرسمي، لم يكن عندي مشكلة في وضع الجوال على الصامت وإبقائه في حقيبة التحضيرات، حتى أني أستخدم الآيباد في توقيت الأنشطة. ما فاجأني كمية التنبيهات المهولة بعد المحاضرة. أنا في محاضرة، لِمَ طلب الإجابة الفورية، لِمَه؟ أغلب الأحيان كنت لا أُصمته للحالات الطارئة. ساعدني ذلك على تطبيق إجراء استخدام الجوال في حدود تعليمية أنا أُحددها، ثم يمكث في الحقيبة إلى أن يأذن الله بانتهاء المحاضرة، وذلك بعدما أجريت تجربة ترك حرية الاستخدام، فخرجتُ بأنهن يعرفن ما يدور في العالم أكثر مما يدور في المحاضرة.

تطوّر الوضع لأستخد الجوال في التوقيت لكن عيني تُغفل تماماً التنبيهات. أسعدني أن نفسي تنتبه لي أيضاً : )

لا أخفي أني صرت أجلس بالمجالس أتطلع لمن لا يستخدم جواله، البداية كانت محرجة، لكنك تعتاد. تعرضت لانتكاسات طبعاً، لكن كنت أقول لنفسي: ماذا سيخسر العالم لو انقطعتِ عنه؟

وقبل أشهر تعطل جوالي لأيام، لم أتحمس لإصلاحه لأجرب الحياة بدونه، والحقيقة مواعيدي ض[طت أكثر لعلمي أنّي لا أملك وسيلة أطمئن فيها الطرف الآخر أني في طريقي، أو يتواصل هو ليعتذر عن تأخره. كنت أصل البيت وأطمئن على العالم من اللابتوب، والحمد لله، لم يتغير شيء، ما زالت الحروب قائمة، والقتلى في كل مكان، والطلبة منهكون، والرياضيون يصطرخون، والصحيّون يهرولون.

ما كانت الثمرة؟

تحسّن نومي، واختفت تقريباً آلام الرسغ، وكم مرة اكتشفت تعطّل كاميرا الجوال مصادفة لأني لم أستخدمها من فترة طويلة، ضاعت سماعاتي ولم آبه، ويطول عمر البطارية لـ 24 ساعة تقريباً.

والأهم أن العالم لم يختل توازنه لما خففتُ اتصالي به : )

نُشرت التدوينة بتاريخ 3/4/2019

كيف تخطّينا كل هذا؟

نُشرت ديسمبر، 2017 | التدوينة الاصلية

في الوقت الذي تقرأ هذه التدوينة، تذاكر طالباتي لأول الاختبارات النهائية غداً. أرجو أن تدعو لنا ألا نلتقي الفصل القادم .. لا أحب أن يرسب أحد.

سيودّعنا عام 2017 بعد أيّام، ليبدأ بعضهم تقليداً جميلاً وهو سرد الدروس التي تعلّمها أو ما أنجزه، منهم الأديبة جديلة التي  عرضت دورسها بأدب رفيع (لم تعد منشورة).

عام 2015 كان مزدحماً جداً بكل شيء، أما عام 2016 فلا أدري كيف مرّ، وأخيراً 2017 أزعم أني قضيت أغلبه في التأمّل. مما انتقل معي إلى هذا العام بدئي تجربة التدريس لطالبات البرامج التحضيرية.

بشّرني الكثير أن الجُهد المطلوب لتدريسهن لا يكاد يُذكر، فلما بدأت شعرت بارتباك؛ هل يقفن على مسرحٍ غير الذي أقف عليه الآن؟

أستقبل كُلّ فصل كائنات صغيرة، مُقبلة على الحياة ما بين خوف وجاء، بهجَة وتوجّس، حماس وهروب، مُصطحباتٍ كل ما عُوّدن عليه واكتسبنه خلال 12 عاماً؛ الوقوف مثلاً عند الإجابة، التعذّر بالذهاب لدورة المياه إذا ملّت من المُحاضرة، السواليف بالأوراق وغيرها. كمّية التلقائية السلوكية التي تمتلئ بها القاعات مُذهلة. كمّية الجُهد المبذول في التعامل مع هذه الفئة مهولة. أمّا الانعكاسات والانطباعات فقد اعتدتُ اجتماع الأضداد فيها.

لم أبتعد كثيراً عن مقاعد الدراسة  ( عام 2015 اختنق بها حتى آخر يومٍ فيه) حتى اعتقدتُ أنّي سأقضي حياتي بين الدراسة والاختبارات، حيث تُنتزع روحي عدة مرات في الفصل الواحد، لكن رؤية الوضع من علٍّ = مقام المعلّم، أراني بُعداً مختلفة لمِقعَدي، حتى صرت أتساءل: كيف تخطّينا كُلّ هذا؟

حين تستصعب على طالبة أجزاء الجملة البسيطة، أسترجع مشاعري مع القواعد البغيضة، حين أسمع “أوهو!”، أبتسم في سرّي لأنها ستكتشف أن ما يبهرها الآن عادي في عالم الكِبار، أمّا حين أعلم أن لديهن اختبار في غير مادتنا فإنّي أضمّ يدي إلى جناحي وأُحيط قلبي بأضلاعي ..  ربّاه! كيف تخطّينا كُلّ هذا؟

كيف تخطّينا همّ المعدل والمُستقبل، كيف تخطّينا سهر الليالي في إنهاء المشاريع، كيف تحمّلنا الأيام الطويلة والاختبارات المُتتاليّة، كيف تخطّينا حرّ المعامل وقرّ المكتبة، كيف تخطّينا عُنق الزجاجة وتيه التوجّه؟ .. “وكان فضلُ الله عليكَ عظيماً” ، أي والله عظيمٌ يا رب فضلك.

” كُلّه هيعدي .. متشغليش بالك.” ستتخطّى كل ما ظننته كؤود، وستبرأ الجروح كأنها لم تنزف، وستتعافى من التعب وتنهض، المهم أن تبذل وسعك – أقصاه لتتخطّى كل هذا بسلام وإلى سلام ، “وللآخرةُ خيرٌ لكَ من الأولى” .