إخلاء طرف | 3 كثافة اللحظة

ماذا يفعل الحُزن إن أنكرته وتجاهلته؟ سيتحوّر ليكون ألماً في جسدك أو غضباً متّقداً، أو ربما تراكم فأفقدك عقلك بعد سنوات. ماذا عن البهجة التي تتشكل من الاجتماع مع من تحب، أو سماع ضحكة طفل أو مُلاعبة حيوانٍ أليف، ثم تنهيها في منتصفها لتفاهتها المتناهية مقارنةً مع آلامك أو مسؤولياتك؟ ستموت تعيساً مُتعساً لغيرك.

حين تتعايش مع وطأة اللحظة الآنية، حزناً، قلقاً، سعادةً، دهشةً، حرجاً، حماسةً، ستفهم مشاعرك وتديرها وتتمكن من توجيهها وتجاوزها أو تحجيمها إن أضرّت. لن تحبسها في جسدك ولن تحرم روحك وستقبل على الحياة.

“عِش اللحظة” من الوصايا التي مرّت بي عام 2010 تقريباً. لديك اختبار؟ لا هروبك سينفعك ولا تقاعسك، ومتع الحياة تنتظر. حان الاختبار؟ ادخله وكأنه آخر معركة لك “أرِ الله من نفسك خيراً” ، النتيجة غير مرضية “ما على المحسنين من سبيل”، أرضتك النتيجة؟ .. أرأيت أنّ الأمر يستحق؟ وأن قلقك لم يكن يستحق أكثر من إقرار به والمضي رغماً عنه؟

وهذا من المبادئ التي بذلتُ وسعي للالتزام بها: أن أعيش اللحظة. لكن تطبيقاته مع الجماعات لم تكن كما كانت مع نفسي، إذ عليك أن تعيشها مع اعتبار عدة عوالم موازية:

لحظة التدريس، تتوازى معها لحظة إدارة الصف مع لحظة متابعة الانطباعات مع لحظات العوامل الخارجية المُفاجئة.

اللحظة التي لا أحب هي لحظة التخطيط للدرس، لكن إن لم أعشها ستُفسِد عليّ لحظة التدريس، التي تتبعها أمتع اللحظات عندي: لحظة التطبيق، هنا أرى أثر لحظة التدريس بالنسبة لي، التي هي لحظة التعلم بالنسبة للطالبة، أسمع الأمثلة وألاحظ الاستبشار على الوجوه أو تقطيب الجبين، ومحاولات الظفر أو الهروب، لحظة التطبيق هي لحظة إدارة الانفعالات في موقف تعليمي؛ الإنفعالات الإيجابية ستظهر، والسلبية (كالإحباط أو الصدمة) ستُحجّم وتحوّر لانفعال إيجابي.

لا يجوز معايشة كل شعور سلبي في لحظات الموقف التعليمي لأنّ المعلّم هنا يُعلّم مما يعلّمه الطالب التوجيه المستقر المطمئن حيال المادة أو المفاهيم خلال التعلّم. تفكّر بأي مادة تكرهها ومعاداة دارسيها، أكرهك لصعوبتها فعلاً أم لسلبية المعلم أياص كان مصدرها؟ السلبية تكون بتعليقات ساخرة مهينة أو بتأفف أو بنظرات ميتة، وقد تتصعد لعبارات مباشرة وأفعال كالطرد.

إلى أين تذهب المشاعر السلبية خلال اللحظات التعليمية؟ تباغتني في مناماتي، حتى تعلّمت تقنيات التنفس العميق، والخروج من المبنى لو للحظات إلى الشمس في الشتاء، أو التعرض للهواء البارد في الصيف، المشروبات الباردة أو الساخنة آخر الحلول، وأحاول وسعي أن أفعل ذلك في أقرب فرصة ممكنة حتى لا تتراكم أو تؤثر على سلامة حُكمي وانفعالاتي الأخرى.

بودي لو أقول إن كل ذلك إلهام ربّاني صِرف، لكن الواقع أنّه دون توفيق الله ثم الإعداد المسبق لمهمّة التدريس وإرشاد الخبراء الحقيقيين في مجال التعليم، والدورات التطويرية والعلاقات المهنية مع المختصين، لكنتُ تركت مهنة التدريس منذ العام الأوّل أو لأصبحت جحيمي المعجّل.

وهذا هو لُب هذه التدوينة:

دورات الإعداد المهني، ولو قيل عنها ما قيل المهم أنها معتمدة ويُفضل التنويع في البلدان مقدّمتها، تُعدّ ذهنية حاضرها ليكون مستعداً لهذا المجال أو ذاك. ففيها المعارف والمواقف والخبرات وكلها متخصصة.

الخبير الحقيقي في مجالك توجهُه إيجابي حياله وأقصد بالإيجابي أنّه يوجّه نظرك للقضايا الأهم والغايات النهائية، ويوصيك “اقرأ”، “اقرأ” لأنه يدرك أن في القراءة مجموع المهارات الأساسية للتعامل مع ما يواجهك، وينصت لك.

إن كنتَ تعرف شيئاً فقد غابت عنك أشياء؛ المختّصون في مجالاتهم ويتقاطعون مع مجالك هم “هيئة الخبراء”، هيئة المختصين هذه ستعينك بالمشورة والمصادر خاصة إن لم تكن جهتك تحفل بإرشاد موظفيها إرشاداً حقيقياً في بعض المواقف الضبابية، أتعرف ماذا أفعل حين لا يُشكل علي شيء أستعين عليه بهؤلاء الخبراء؟ أخبر طالباتي أنّ هناك ناجحين مغمورين أعانوني عليهنّ 🙂

الدورات التطويرية، وأقصد بها التي وُضعت لتسلط الضوء على العوامل المتداخلة في إنجاز العمل والنقاش فيها منهجي، أبصرتني موقعي بالنسبة للمستفيدين (الطالبات)، والخطوط الفاصلة بين دوري ودور الأخصائية الاجتماعية وحتى الأم والأخت (1) في الموقف التعليمي، وإدراك انفعالاتهن، كالغضب المفاجئ أو التضجّر، التعلّق ولفت الانتباه، أو أحوالهن النفسية، كالقلق المرضي أو الطبيعي والوسواس القهري وبوادر الاكتئاب، عدا عن الاحتياجات التعليمية الخاصة وهنا قليل عنها، بالإضافة إلى التي تبُصرني نفسي واحتياجاتها نظراً لطبيعة هذا العمل..

في كثير من المرات التي تُبالغ اللحظة في كثافتها وتطلبّها إياي فأتبرّم أو أراوغها، تخطر لي مذكّرات “هروبي إلى الحرية” لعلي عزّت بيغوفيتش عليه شآبيب الرحمات، متنوعة القضايا والاهتمامات وثابتة التوجّه، ليس هذا عجيبها، بل أنه كتبها في سجنه وأخفاها عند رفيقه وأخرجها مهرّبة.

ما زلت ُأخطئ وأصيب، وخطئي أكثر من صوابي، وفي كلّها أحاول معايشة اللحظة.

في الصورة أحد أساليب عيش لحظة التعلّم، أستضيف الجوالات عندي حتى انتهاء المحاضرة


دور الأم والأخت: يشيع في السياقات التعليمية تشبيه المعلم بأنه والد، والمعلمة بأنها أمّ، وذلك لمزجهما التعليم بالتربية و شخصيتهما التي تُشبه الوالدين، وهذا ما يفسّر أحياناً تجاوزهما دورهما التربوي في المدرسة وتجملها مسؤولية اجتماعية أوسع حيال الطلبة، لربما قُبل هذا من بعض الشخصيات بفئة عمرية محددة، لكن ليس من الأغلبية، ويفرض المجتمع أحياناً هذ التجانس بين الأدوار.

والواقع أن هناك فروقات دقيقة بين دور المعلم ودروه فرداً من أسرة الطالب ودوره مصلحاً اجتماعياً أو أخصائي نفسي في سياق عملي واحد، ينبغي عليه استيعاب إطارات كلّ دور واحترامها لأن التنقل المستمر بينها بكثافتها ومتطلباتها سيضيف عبئاً لا يستطيع معالجته بمرور الوقت، إلا في ظروف استثنائية.

بين الترجمة والتدريس

أعتقد أن للترجمة دور فاعل في تغيير حياة كل من تعرّض لمنتجاتها بطريقة أو أخرى، الدين والفكر والفن..حتى الحرب لابد أن تجد للترجمة يد فيها؛ والمُترجم هو بالضرورة مفكّر ومؤلّف ووسيط، قارئ وكاتب وشاهد؛ عدّة أدوار في شخصٍ واحد.

تدريس اللغة مختلف عن تدريس الترجمة أو ممارستها، وإن كانا غير منفكين خلال عملية الترجمة، إنما الغلبة في الترجمة لجوانب رئيسية هي ثانوية في تدريس مهارات اللغة، وفي تدريس اللغة التركيز على مهاراتها والترجمة فرع فيها.

مع ممارسة الأدوار المتعددة للمترجم وتضخم فصّيّ دماغه، يتشكّل لديك تصور أن دورك أكثر من كونك ناقل، وعليك أن تتحمل مسؤولياته باستحقاق. خلال استيعابي لهذه الحقيقة بدأت تدريس مهارات اللغة في الجامعة. عدّه البعض نقلة نوعية، ولا أعتبره إلا تغيّراً في طبيعة الدور الجديد للشخص الذي شكّلته الترجمة مع عوامل أخرى، أنا.

المراهقات اللاتي كُنت أتواصل معهن عبر منصة نون التعليمية، صرت أراهن أمامي، الطفلات اللاتي نعمل لحمايتهن عبر مشروع نبيه، هؤلاء أخواتهن، الرياديات والإعلاميات اللاتي قرأنا شذرات من معرفة لهن، ها هن يتشكّلن تحت عيني.

أجواء التدريس تختلف تماماً عن أجواء الترجمة، إذ أُضيف إليها مهمّة التربية، ومن اللطيف أني اكتشفت أن بين التدريس والتسويق علاقة طيّبة غير معلنة مما يسّر المهمة وإن كانت لا تزال تدهشني تحدياتها.

كنت أصبر على تفكيك نصّ، صرت أصبر على شكوى طالبة من صعوبة اللغة.

كنت أتخيّر الطريقة الأفضل للتعبير عن فكرة، صرت أفصّل الأسلوب الأنسب لشرح قاعدة.

كنت أتأثر بالنص حزناً وفرحاً وحماسةً، صرت أتفاعل مع الطالبات بأفراحهن وأتراحهن، وما لا شأن لي به أحياناً.

كنت أحاول أن أقدّم خطة لترجمة عمل، صرت أحاول إشعال القناديل المؤدية إلى المحطات التالية للطالبات.

كنت أشعر بأدمغة الطالبات في يديّ أشكّلها كيفما أشاء، كما أفعل بدماغ قارئ نصّي المترجم، فالجامعة المجتمع المصغّر للمجتمع الكبير الذي سندفع صغيراتنا إليه يوماً ما، وبحسب تعليمنا وأساليبنا وتوجيهنا سيكون المجتمع. فكما أعلّمها كيف تقرأ وتتحدث، أعلّمها كيف تفكّر وتفهم وتؤثر.

من الأمور التي أركّز عليها نبذ الترجمة خلال تعلّم اللغة، مرّة، في قاعة نائية ومحاضرة لن تنتهي قبل 2.45 ظهراً، شرحت للطالبات تأثير حاجز الترجمة على إدراك المراد من الكلمة أو المفهوم. شعرت وكأنما شيء انعتق، غدون أكثر ارتياحاً. خلال ملاحظتي لحلهن التدريبات شعرت بخفّة، برئتيّ ممتلئتين بالهواء النقيّ، بحرية ذهنية، وكأن خطواتي ليست فوق الأرض، هذا الشعور لم تمنحيه إلا الترجمة ومجال آخر، سُعدت أني وجدته في هذه التجربة الغضّة وبدايتها.

وهذا مما أرجو أن ينتقل للطالبات؛ أن تجد خفّةً روحية وتمتلئ بالهواء النقيّ وتتمتع بالآفاق الفكرية كلما انخرطت في معرفةٍ ما تشبهها أو كانت تقوم بمهمّة على سراط رسالتها.

نُشرت بتاريخ 24/7/2017

ماذا حلّ بالعالم لمّا غبتُ عنه؟

تشكل نوع من الإدمان والمشكلات الصحية بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الاتصال الدائم بالشبكة، وكأنّه ستحصل كارثة لو غبنا 15 دقيقة عن التغريد أو لم نرد مباشرة على تنبيهات المحادثة، حتى طال الأمهات فإن لم ترد على اتصال أمك خلال 5 دقائق ستجد 25 مكالمة و60 تنبيه واتس أب ومنها و5 من أختك و2 من أخيك، والأم العزيزة هي من طلبت منهم تفقدك.

بسبب إدمان الحضور الدائم في الشبكات تطورت عندي اضطرابات النوم، تكرر الصداع، تشتت الذهن أكثر، القلق المتزايد من الانقطاع، ولا تسأل عن آلام الرسغ، والأدهى الحاجة الملحّة لتفقد الشبكات كل ربع ساعة وقراءة كل تدوينات الأصدقاء وكل الخلاصات وكل النشرات، والاستماع لكل الحلقات الصوتية ومشاهدة كل الفيديوهات المنشورة.

كنت أستفيد من هاتفي الذكي نعم، لكن يعرقل استثماره الأمثل هذا الإدمان مزعج، يعُلّقك بالعالم الخارجي حتى صرنا نغبط من ليس لديه حساب في الشبكات ولا حتى هاتف ذكي. نعم هناك من ليس لديه ذلك. أثر ذلك بطبيعة الحال على الإنتاجية والقراءة الجادة والاستمرار في المشاريع الشخصية، أما الاجتماعات العائلة فيُرثى لها.

حتى قضيت 120 ساعة بلا جوّال، فلما انتهت التجربة وجدت أن العالم كما هو عليه، لم يتهاوَ لما توقفت عن تفقده لسويعات.

كانت ذلك لما انضممت لبرنامح تدريبي يقدمه المدرب علوي عطرجي، كان من قوانينه منع استخدام الجوال، ومن يستخدمه يتعرض لغرامه قدرها 100 ريال تذهب للجمعيات الخيرية، وبعدد استخدامك يتكرر التغريم. لا يستطيع الأستاذ طبعاً متابعة متدربات القسم النسائي لكثرتهن، لكن مساعداته يتولين ذلك. وسقط بعض الضحايا طبعاً. كانت مدة البرنامج 50 ساعة مقسمة على أيام متوالية. اليوم الأول كان صعباً، الثاني أقل صعوبة، وفي الثالث نسيته تماماً. في الوقت ذاته كنت قد بدأت برنامج مدته 6 أشهر، بواقع جلسة واحدة أسبوعياً مدتها 4 ساعات. لم تمنع المدربات استخدام الجوال، لكنهن يُحرجنك بالنظرات حتى تدخله وتتصرف كأنك لا تملكه.

كنتُ أحتاج هذا الانقطاع، وأتطلع لثمرته. في الربع الأول من التجربة تقريباً توفي جدي رحمه الله، في فترة العزاء وضعت جوالي على العادة الجديدة في الحقيبة وجلست في المجلس. سُئِلت مرات عنه، ويتبع السؤال استغراب أني لا أحمله. خف الزوار، وجلست أتطلع حولي لمن قد أتجاذب معه أطراف الأحزان، لكنهم على جوالاتهم، فتعرفت على أختي من جديد.

لما بدأت العمل الرسمي، لم يكن عندي مشكلة في وضع الجوال على الصامت وإبقائه في حقيبة التحضيرات، حتى أني أستخدم الآيباد في توقيت الأنشطة. ما فاجأني كمية التنبيهات المهولة بعد المحاضرة. أنا في محاضرة، لِمَ طلب الإجابة الفورية، لِمَه؟ أغلب الأحيان كنت لا أُصمته للحالات الطارئة. ساعدني ذلك على تطبيق إجراء استخدام الجوال في حدود تعليمية أنا أُحددها، ثم يمكث في الحقيبة إلى أن يأذن الله بانتهاء المحاضرة، وذلك بعدما أجريت تجربة ترك حرية الاستخدام، فخرجتُ بأنهن يعرفن ما يدور في العالم أكثر مما يدور في المحاضرة.

تطوّر الوضع لأستخد الجوال في التوقيت لكن عيني تُغفل تماماً التنبيهات. أسعدني أن نفسي تنتبه لي أيضاً : )

لا أخفي أني صرت أجلس بالمجالس أتطلع لمن لا يستخدم جواله، البداية كانت محرجة، لكنك تعتاد. تعرضت لانتكاسات طبعاً، لكن كنت أقول لنفسي: ماذا سيخسر العالم لو انقطعتِ عنه؟

وقبل أشهر تعطل جوالي لأيام، لم أتحمس لإصلاحه لأجرب الحياة بدونه، والحقيقة مواعيدي ض[طت أكثر لعلمي أنّي لا أملك وسيلة أطمئن فيها الطرف الآخر أني في طريقي، أو يتواصل هو ليعتذر عن تأخره. كنت أصل البيت وأطمئن على العالم من اللابتوب، والحمد لله، لم يتغير شيء، ما زالت الحروب قائمة، والقتلى في كل مكان، والطلبة منهكون، والرياضيون يصطرخون، والصحيّون يهرولون.

ما كانت الثمرة؟

تحسّن نومي، واختفت تقريباً آلام الرسغ، وكم مرة اكتشفت تعطّل كاميرا الجوال مصادفة لأني لم أستخدمها من فترة طويلة، ضاعت سماعاتي ولم آبه، ويطول عمر البطارية لـ 24 ساعة تقريباً.

والأهم أن العالم لم يختل توازنه لما خففتُ اتصالي به : )

نُشرت التدوينة بتاريخ 3/4/2019