إخلاء طرف | 4 دوائر النجاة

هل تعلم ما هي ترجمة “الدنيا صغيرة!” علمياً؟ هي نظرية : على بُعد ست خطوات

The Six Degrees of Separation Theory.

بمعنى: أنّ أبعد شخص يمثل حلقة الوصل بينك وبين بغيتك هو الشخص السادس في شبكة علاقاتك، وأنتَ الأوّل بطبيعة الحال. تعرف محمّد مثلاً، ومحمّد يعرّفك على أحمد، الذي يعرف محمّد وعبدالله، فيعرّفهما على خالد، الذي ستتعرف عليه بعد سنوات إما عن طريق محمّد أو أحمد أو عبدالله، فيعرّفك على أبي إبراهيم بنفس اللقاء، الذي يمثل الشخص السادس، ربما يكون هو وجهتك أو يكوّن شبكتك الجديدة لما تريد الوصول إليه. هذا مثال مبسّط للغاية، وهو لأقصى عدد يفصلك عن ما تسعى إليه، وقد يكون أقل. .

تنطبق النظرية على ما يفصلك عن إنجازك أو أحلامك، أو أياً ما كانت غايتك، الواقعي بالنظرية أنّها تسير بطريقة شبكية، لا هرمية ولا لولبية ولا خط مستقيم. فوضى خلّاقة، المهم نصل للخطوة السادسة. هي استقرائية طبعاً وليست استراتيجية وضعية.

قبل أن أحلل شبكية علاقاتي وفقاً لهذي النظرية، أحب تقسيمها لدوائر تختلف باختلاف تصنيفات أصحابها. بعض الدوائر تتقاطع بحسبب ضرورتها؛ فالزميلة في دائرة الدراسة تقاطعت مع كونها الزميلة في دائرة العمل، ومرّ عليّ دوائر علاقات تكاد تكون تكتلت اسطوانياً، أختان مثلاً في دائرة العائلة، هما الزميلتان في دائرة الجامعة، هما الزميلتان في دائرة العمل، هما زوجتان لأبناء في دائرة عائلة أخرى .

وما كان هذا مستغرباً سابقاً، تتكتل الدوائر بطريقة اسطوانية كالمثال السابق أو تنتهي صلاحياتها لصالح دوائر جديدة. فطالبة معلمة الثانوية مثلاً قد تصير جارة لها، وطالب المرحلة الابتدائية مديراً لأبناء جارِ والده لاحقاً.

بعض الدوائر بطبيعتها سميكة، فالزمن هو الذي متّنها أو لأهميتها، كدائرة العائلة أو الأصدقاء أو الدائرة المهنية، ودوائر لا تكاد تُرى إلا إذا نُظر لها، تمثل أي علاقة سطحية وهي دائرة واسعة للغاية، تمرّ عليها سراعاً وربما تتجاوزها دون الانتباه لها، وأخرى مطاطية، يخرج منها من يخرج في أمان الله ويدخل من يدخل أهلاً به، وهي دائرة زمالة العمل, وربما نشأت عن هذه الدوائر دوائر أو داخلها، وهكذا تتعدد الدوائر وأغراضها.

ما أهمية حديث الدوائر الاجتماعية؟ أنها نجاتك. حين تخوض حياة العمل، تتذكر دائماً أنه هذه حياة متفرّعة عن حياتك الأصل ودوائرها، وأنها ليست غاية بحد ذاتها، والدوائر المهنيّة خارج نطاق عملك تُغذي دائرة العمل وترفع أفق رؤيتك، ودائرة الأصدقاء هي المستراح، ودائرة العائلة هي المقصد. تطغى بعض الدوائر أحياناً على بعضها، لكن الإدراك الذهني لتمايزها يساعدك على الموازنة بينها، ولا يمكن بحال، إذا ما أردت حياة صحية ومتزنة، أن تتخلى عن أي منها.

بداية عملي في التدريس كانت اللحظات كثيفة للغاية، تفيض من روحي جمالاً أحياناً ورهقاً أحياناً أخرى لطبيعته، فتلقّتها دوائري الاجتماعية الأخرى لكلٍّ منها جانب، حتى أنّي أنشأت موقعاً جغرافياً لمكتبي أسميته

“the Outer Space” * | الفضاء الخارجي

وكأنه عالم موازي أصعدُ إليه، أجمع ما أجمع، وأنثر ما أنثر، ثم أعود لأحكي ما رأيت فيه، كيلا أفوّت معايشتي له ولا أنغمس فيه تماماً، فكنت حين أخرج من البوابة أقول الآن خرجتُ.

لطالما قدرتُ ثمار هذه الدوائر، ورغبتُ أن تحصل طالباتي على مثلها -وبعضهن شكّل فعلاً دوائر تجمعنا- خاصة وأن عملي لطالما تقاطع مع أعمال ومسؤوليات هذه الدوائر فلا أجد فيه إلا تعزيزاً لما بيننا أساساً، وكأننا نمسك بأيد بعضنا للمستقبل 🙂

لذا أستطيع القول إنّ من أهم أسباب النجاة في أي شيء، دوائرك الاجتماعية، ألم يطلب موسى عليه السلام من الله عزّ وجل أن “وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)” [طه] .. لم؟“اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا” [طه] .. كي يُعينه على ما هو مُقبلٌ عليه.

*اسم البقعة الجغرافية مُستلهم من كتاب “خارج المكان” لإدوارد سعيد، ترجمة صديقه فواز الطرابلسي، وقد أوصتني به زميلة دراسة الماجستير ا. مها، استغرق الأمر ثلاثة أشخاص ليصل خبر إدوارد سعيد لك، وربما خطوتين لتصل هذه التدوينة. كم هو صغير عالمنا!

إخلاء طرف | 3 كثافة اللحظة

ماذا يفعل الحُزن إن أنكرته وتجاهلته؟ سيتحوّر ليكون ألماً في جسدك أو غضباً متّقداً، أو ربما تراكم فأفقدك عقلك بعد سنوات. ماذا عن البهجة التي تتشكل من الاجتماع مع من تحب، أو سماع ضحكة طفل أو مُلاعبة حيوانٍ أليف، ثم تنهيها في منتصفها لتفاهتها المتناهية مقارنةً مع آلامك أو مسؤولياتك؟ ستموت تعيساً مُتعساً لغيرك.

حين تتعايش مع وطأة اللحظة الآنية، حزناً، قلقاً، سعادةً، دهشةً، حرجاً، حماسةً، ستفهم مشاعرك وتديرها وتتمكن من توجيهها وتجاوزها أو تحجيمها إن أضرّت. لن تحبسها في جسدك ولن تحرم روحك وستقبل على الحياة.

“عِش اللحظة” من الوصايا التي مرّت بي عام 2010 تقريباً. لديك اختبار؟ لا هروبك سينفعك ولا تقاعسك، ومتع الحياة تنتظر. حان الاختبار؟ ادخله وكأنه آخر معركة لك “أرِ الله من نفسك خيراً” ، النتيجة غير مرضية “ما على المحسنين من سبيل”، أرضتك النتيجة؟ .. أرأيت أنّ الأمر يستحق؟ وأن قلقك لم يكن يستحق أكثر من إقرار به والمضي رغماً عنه؟

وهذا من المبادئ التي بذلتُ وسعي للالتزام بها: أن أعيش اللحظة. لكن تطبيقاته مع الجماعات لم تكن كما كانت مع نفسي، إذ عليك أن تعيشها مع اعتبار عدة عوالم موازية:

لحظة التدريس، تتوازى معها لحظة إدارة الصف مع لحظة متابعة الانطباعات مع لحظات العوامل الخارجية المُفاجئة.

اللحظة التي لا أحب هي لحظة التخطيط للدرس، لكن إن لم أعشها ستُفسِد عليّ لحظة التدريس، التي تتبعها أمتع اللحظات عندي: لحظة التطبيق، هنا أرى أثر لحظة التدريس بالنسبة لي، التي هي لحظة التعلم بالنسبة للطالبة، أسمع الأمثلة وألاحظ الاستبشار على الوجوه أو تقطيب الجبين، ومحاولات الظفر أو الهروب، لحظة التطبيق هي لحظة إدارة الانفعالات في موقف تعليمي؛ الإنفعالات الإيجابية ستظهر، والسلبية (كالإحباط أو الصدمة) ستُحجّم وتحوّر لانفعال إيجابي.

لا يجوز معايشة كل شعور سلبي في لحظات الموقف التعليمي لأنّ المعلّم هنا يُعلّم مما يعلّمه الطالب التوجيه المستقر المطمئن حيال المادة أو المفاهيم خلال التعلّم. تفكّر بأي مادة تكرهها ومعاداة دارسيها، أكرهك لصعوبتها فعلاً أم لسلبية المعلم أياص كان مصدرها؟ السلبية تكون بتعليقات ساخرة مهينة أو بتأفف أو بنظرات ميتة، وقد تتصعد لعبارات مباشرة وأفعال كالطرد.

إلى أين تذهب المشاعر السلبية خلال اللحظات التعليمية؟ تباغتني في مناماتي، حتى تعلّمت تقنيات التنفس العميق، والخروج من المبنى لو للحظات إلى الشمس في الشتاء، أو التعرض للهواء البارد في الصيف، المشروبات الباردة أو الساخنة آخر الحلول، وأحاول وسعي أن أفعل ذلك في أقرب فرصة ممكنة حتى لا تتراكم أو تؤثر على سلامة حُكمي وانفعالاتي الأخرى.

بودي لو أقول إن كل ذلك إلهام ربّاني صِرف، لكن الواقع أنّه دون توفيق الله ثم الإعداد المسبق لمهمّة التدريس وإرشاد الخبراء الحقيقيين في مجال التعليم، والدورات التطويرية والعلاقات المهنية مع المختصين، لكنتُ تركت مهنة التدريس منذ العام الأوّل أو لأصبحت جحيمي المعجّل.

وهذا هو لُب هذه التدوينة:

دورات الإعداد المهني، ولو قيل عنها ما قيل المهم أنها معتمدة ويُفضل التنويع في البلدان مقدّمتها، تُعدّ ذهنية حاضرها ليكون مستعداً لهذا المجال أو ذاك. ففيها المعارف والمواقف والخبرات وكلها متخصصة.

الخبير الحقيقي في مجالك توجهُه إيجابي حياله وأقصد بالإيجابي أنّه يوجّه نظرك للقضايا الأهم والغايات النهائية، ويوصيك “اقرأ”، “اقرأ” لأنه يدرك أن في القراءة مجموع المهارات الأساسية للتعامل مع ما يواجهك، وينصت لك.

إن كنتَ تعرف شيئاً فقد غابت عنك أشياء؛ المختّصون في مجالاتهم ويتقاطعون مع مجالك هم “هيئة الخبراء”، هيئة المختصين هذه ستعينك بالمشورة والمصادر خاصة إن لم تكن جهتك تحفل بإرشاد موظفيها إرشاداً حقيقياً في بعض المواقف الضبابية، أتعرف ماذا أفعل حين لا يُشكل علي شيء أستعين عليه بهؤلاء الخبراء؟ أخبر طالباتي أنّ هناك ناجحين مغمورين أعانوني عليهنّ 🙂

الدورات التطويرية، وأقصد بها التي وُضعت لتسلط الضوء على العوامل المتداخلة في إنجاز العمل والنقاش فيها منهجي، أبصرتني موقعي بالنسبة للمستفيدين (الطالبات)، والخطوط الفاصلة بين دوري ودور الأخصائية الاجتماعية وحتى الأم والأخت (1) في الموقف التعليمي، وإدراك انفعالاتهن، كالغضب المفاجئ أو التضجّر، التعلّق ولفت الانتباه، أو أحوالهن النفسية، كالقلق المرضي أو الطبيعي والوسواس القهري وبوادر الاكتئاب، عدا عن الاحتياجات التعليمية الخاصة وهنا قليل عنها، بالإضافة إلى التي تبُصرني نفسي واحتياجاتها نظراً لطبيعة هذا العمل..

في كثير من المرات التي تُبالغ اللحظة في كثافتها وتطلبّها إياي فأتبرّم أو أراوغها، تخطر لي مذكّرات “هروبي إلى الحرية” لعلي عزّت بيغوفيتش عليه شآبيب الرحمات، متنوعة القضايا والاهتمامات وثابتة التوجّه، ليس هذا عجيبها، بل أنه كتبها في سجنه وأخفاها عند رفيقه وأخرجها مهرّبة.

ما زلت ُأخطئ وأصيب، وخطئي أكثر من صوابي، وفي كلّها أحاول معايشة اللحظة.

في الصورة أحد أساليب عيش لحظة التعلّم، أستضيف الجوالات عندي حتى انتهاء المحاضرة


دور الأم والأخت: يشيع في السياقات التعليمية تشبيه المعلم بأنه والد، والمعلمة بأنها أمّ، وذلك لمزجهما التعليم بالتربية و شخصيتهما التي تُشبه الوالدين، وهذا ما يفسّر أحياناً تجاوزهما دورهما التربوي في المدرسة وتجملها مسؤولية اجتماعية أوسع حيال الطلبة، لربما قُبل هذا من بعض الشخصيات بفئة عمرية محددة، لكن ليس من الأغلبية، ويفرض المجتمع أحياناً هذ التجانس بين الأدوار.

والواقع أن هناك فروقات دقيقة بين دور المعلم ودروه فرداً من أسرة الطالب ودوره مصلحاً اجتماعياً أو أخصائي نفسي في سياق عملي واحد، ينبغي عليه استيعاب إطارات كلّ دور واحترامها لأن التنقل المستمر بينها بكثافتها ومتطلباتها سيضيف عبئاً لا يستطيع معالجته بمرور الوقت، إلا في ظروف استثنائية.

إخلاء طرف | 1 صلاة الشكر

برزخ، أحب هذه الكلمة، وكأنها محطة انتظار طافية لتنتقل من عالمك السابق لعالمك الجديد دون عودة، حالة من اللاشيء، مطمئن لما فات ولتجاوز ما سيستقلبلك مخيّلتك، لا تنشغل به. ومن البرازخ التي عشتها الخميس الماضي، حيث أخليتُ طرفي الأربعاء من مقر عملي السابق، ولمّا يصدر قرار توجيهي للجديد، فصرتُ في برزخ.

دلفتُ استقبال المبنى السابق، إذ لا بد من إثبات تقيّد الحياة بي بإثبات الحضور. أوّل فكرة طرأت لي: لو حصل لي طارئ، وفارقت الحياة قبل إثبات حضوري، في هذه المرحلة البرزخية، ماذا سيُكتب في جهة عملي؟ لا أريد طبعاً أن يُكتب أني فارقت الحياة على أرضية المبنى أو مصعده أو عتبة المكتب المسؤول.

كنتُ قد أنهيت فعلاً كل أعمالي ومهامي منذ منتصف رمضان، آخر مرّة أقدم محاضرة لبرنامج تحضيري، آخر مرة أرصد الدرجات له، آخر مرّة أختم آخر وحدة في منهجه، أواخر وأواخر.. شعور حزين صغير أطلّ على قلبي حينها، لم أطرده لكنه اختار أن يتبدد. هذه سنة الحياة، التحولات والتنقلات، الخواتيم والبدايات، وكل من ثبت، جَمَد، ولم أكُن وحدي فيما مضى، أهلي وأساتذتي والصديقات رافقوني مغامرات ذلك العالم.

أقول مغامرات لأن كل يوم جديد يحمل معه تحدياته، انتصارات صغيرة على مدار اليوم، وهزائم أصغر تحاول تعويضها اليوم التالي.

كنتُ أظنّ أنه سيحصل شيء كوني إن أتممتُ تدريس ألف طالبة، فاللذي حصل أني طمحت للوصول للطالبة التي تتم الألف العاشرة، وانتقلت الرغبة من متابعة دورات معتمدة إلى الحصول على رخص مهنية، ومن تدريس ما أطمئن له من مواد إلى ما أتحاشاه.

من يسعد أكثر من الطالبات عند حصولهن على درجات مرتفعة؟ أمي، لأنها دائمة الدعاء أن ينصرهن الله عليّ، بالرغم من أن انتصارهن عليّ هو تمكنهنّ على المعايير الموضوعية في تقييم المادة.

حين أمرّ بيوم طويل وكل ما أريده هو الاسترخاء خلال وقت الاستراحة أو الساعة المكتبية فتأتي طالبة وأتذكر وصية أخي بأن الأستاذ لا يستطيع تحديد حاجات الطالب النفسية والاجتماعية من التواصل مع أستاذه، فلا يكن المنهج هو الصلة الوحيدة بينكما. وما زلت أحاول بناء صلات أخرى.

مقولة أحد أساتذتي :” [ننحاز للعلم والتربية، ونكبت حظوظ النفس وانتصاراتها].” أطفأت كثيراً من ردود فعلي، كما أن الفئة العمرية التي تأتي منها طالباتي آنذاك للتو استبدلت فستانها المنفوش وارتدت الزيّ المحايد وما زالت تحب الحلوى وتستخدم الجوال خفية فرضت عليّ رحمةً لا أدري كيف صبغتني، وهذه مقولة أخرى لأستاذ آخر :”[انظر لطالبك بعين الرحمة، فإذا رحمته استطعت تعليمه ورفعت الجهل عنه.]”

مررتُ بمنطقة القاعات التي قطعتها ذهاباً وعودة، هرولةً وزحفاً، صباحاً بُعيد الفجر ومساءً قُبيل العاشرة، لم تتراءَ لي الطالبات، لم أسمع “يا حادي العيس” لم يخطر لي ” وما حبّ الديار شغفن قلبي” .. نفسي ساكنة ومُطمئنة، لم تحزن ولم تفرح، ولو قيل عودي لما مضى لن أعود طبعاً، ما قطعنا ما قطعناه هوناً، حتى الإخفاقات كانت دروساً تعلّمتها ولو كان بيدي أن لا أخفق لفعلت طبعاً.

لكن خطر لي الأستاذ عمر فرّوخ، ومقالاته حول التعليم ومما علق في نفسي من رأيه أن الطالب ربما لا يعرف أن مصلحته في العلم هذا أو المفهوم ذلك، لكنك معلماً تعرف، وهذه مسؤوليتك ولو لم يُنصّ عليها.

صليت الصلاة الأخيرة في المبنى، وشكرتُ الله على ما مضى، ثم خرجتُ على قيد الحياة مع عبارة “نجونا!” أستحث بها نفسي الساكنة لتشعر بشيء 🙂 فتحمستُ لأكتب أسبوعياً عن تجربة الأعوام الست، وهذه التدوينة بدايتها. وهنا شذرات منها.

صورة التدوينة عبارة وجدتها في دفترة متروك في القاعة التي راقبت فيها أوّل آخر اختبارٍ قبل إخلاء طرفي.

moi, je parle français

يُقال إنه كل لسانٍ تتكلّم به يكشف لك بعداً جديداً للعالم.

تعلّمت بعض كلمات بعض اللغات وقواعدها للمعرفة العامة. اللغة هي المنتج المنطوق لفكر الشّعب، الذي يحمل تاريخه وثقافته وطباعه. ولضآلة معرفني باللغات، لا تزال اللغة البوسنية تبهرني، تليها الكورية. اليابانية والمالطية والروسية أمثلة ممتازة لانعكاس فكر متحدثيها، حتى الفرنسية التي قررت تعلّمها مؤخراً تحمل ما تحمل – وستكون هذه التدوينة الطويلة لها.

خبت إعجابي بالفرنسية منذ فترة طويلة جداً، لذلك ليس من أسباب تعلّمها شغفي بها، وكنت أفضّل عليها الألمانية، لكن الأقدار ساقتها لي أولاً، ورغم كثرة التطبيقات والبرامج عن بعد، اخترت دراستها في المجلس الثقافي الفرنسي – حي السفارات.

قُبيل التسجيل كنت أفكّر بطريقة تجعلني أرى تعلّم اللغة بعينيّ الطالبة التي أدرّسها الإنقليزية التي تختلف طبعاً عن عينيّ حين كنت بعمرها لاختلاف الغرض، كما كنتُ أراجع منهجيتي في منع الترجمة كجسر لتعلّم اللغة.

المجلس الثقافي البريطاني حينها لم يكن يقدم دورات تناسبني، فتحوّلت البوصلة للمجلس الفرنسي، أغلقت من البريطاني واتصلت بالفرنسي، ليقول لي ا. خِضر إنه تبقى 3 مقاعد فقط – لا أدري إن كانت حيلة تسويقية لكن أشكره عليها : ) .

دخلت بذهنٍ خالٍ من أي تصورات أو مواقف مسبقة، حتى ما مررت عليه من نصوص فرنسية تناسيته، حاولت تركيز تفكيري على الموقف التعلّمي الجديد، رافقني خوف الخطوة الأولى، وحين بدأت المعلمة بالشرح والكلام ورأيت تفاعل بعض الطالبات معها، استحضرت أول أسبوعين في الكلية، وابتسمت لأن المشاعر ذاتها تكررت. انتهى اليوم الأول ولم أفهم أكثر من 10%. اليوم الأول أطول فترة استمتعت فيها للفرنسية: ساعة ونصف. أصبت بالصداع والهم. ولا تزال الفكرة الأولى عنها حاضرة: “الكلمة الواحدة فيها 15 حرف ولا يُنطق إلا خمسة حروف أو أربعة .” ولمّا اكتشفت الحقيقة انفرجت أساريري لكن ظهرت مشكلة أخرى.

انتظمت أسبوعين، 4 أيام في الأسبوع، ساعتين يومياً، عدا عن ساعات الدراسة بالبيت، كلما مال ذهني لاتخاذ موقف المعلّم المقيّم، أعدته لموقف الطالب، وظللت أراوح بين الموقفين، عدا عن الأسئلة القديمة والمواقف التي وجدت إجاباتها وتفسيراتها في هذه الدورة.

  • كنت أتساءل عن طريقة المصري في نطق الأبجدية العربية، فعرفت أنها مأخوذه من الفرنسية أيام الاستعمار.
  • في الإنقليزية نضيف لاحقة في بعض الكلمات إن أردنا الإشارة للأنثى، مثلاً: actor = ممثل، actrESS = ممثلة، وهذا قليل، أما في الفرنسية فكلمات كثيرة -في المهن خاصة- لها لاحقة للأنثى لكن لا تُنطق، ومجموعة كبيرة أيضاً -الحديثة نسبياً- لم يعد فيها هذا التفريق لتأثير الحركة النُسوية.
  • اللون الوردي بدرجاته كان للذكور والأزرق بدرجاته للإناث، لكن غيرت النُسوية هذا التقسيم، وفي الكتاب صورة لطفل ظنناه طفلة لارتدائه قميصاً وردياً، هل هذا بتأثير النُسوية أم أن الموازين لم تنقلب في فرنسا؟ عموماً، لم أرَ صحة استخدام هذا المثال المُخالف للعموم.
  • لاحظت – وهذه ملاحظة غير الخبير – أن الفرنسية لغة مُهذبة، أكثر بكثير من الإنقليزية، وكثير من كلماتها اللطيفة مؤنثة: بوتيك، بوفيى، باسترِى. ولفت انتباهي تأنيث بعض الأشياء كالطاولة والكرسي والسيارة، وتذكير الكتاب والسبورة والمقهى. أظن أن فكرة التذكير والتأنيث ستكون موضوعاً جيداً لدراسة لغوية – أحادية أو مُقارِنة مع العربية مثلاً.
  • الكلمات الفرنسية ليست طويلة الحروف قليلة الأصوات، لكن أجزاء الجملة طويلة، فهمت بعضها فتيسر تعّلمها. خُيّل لي -بادي الأمر- أنهم خلال الثورة نثروا محتويات جميع قواميسهم وكتبهم وتراثهم وأحرقوا ما استطاعو حرقه، ثم وبعد أن ذهبت الحشود لبيوتها، حاول اللغويون جمع ما تناثر وتركيبه كقطع البازل، وترا! ظهرت اللغة الفرنسية الحديثة.
  • ينسحب التخيل أعلاه على الأرقام أيضاً. ألفاظ العقود ترتيبها منطقي لكن لا أعرف سبب هذا الاختلاف بالتركيب. 88 مثلاً، تصير: 4*20 . 71 تصير: 60+11. 90 تصير 4*20 + 10. 93 تصير 4*20+13.
  • من المشكلات التي واجهتني أن اللسان الفرنسي لا تقرّ أغلب أصوات حروفه على مخرج، لكن سرعة النطق بها تناسبني جداً، ولأني أسرع من المعلمة نفسها كنت أضيّع بعض قطع البزل. لم تكن إذن كلماتهم طويلة، بل سرعة نطقها.
  • المشكلة الأخرى أنها مكتوبة بالحرف اللاتيني، كانت المعلمة صبورة جداً خلال قراءتنا الكلمات بالصوت الإنقليزي “اليابس” بالمقارنة مع ليونة الصوت الفرنسي.
  • هناك بعض الكلمات متطابقها مع الإنقليزية -لأصلهما الواحد – لكنها مختلفة الاستخدام، وهنا تظهر حساسية السياق في الترجمة ولم تكن ترجمة المعلمة دقيقة – لكن تؤدي المعنى.
  • المعلمة  فرنسية الأصل، كانت متّزنة، لم تكن نُسوية متعصبة، لم تكن فكرياً متعصبة لأي شيء أصلاً، على عكس ما يُقال – عن العربيات المتفرنسات على الأقل – لم تكن تتصنع إذ لابد وأن تسقط منك بعض التفاصيل التي تشي بجوهرك. درّست أختي معلمة فرنسية من أصل عربي، كانت تُصدر تصرفات بحساسية وتثير مواضيع لا تناسب السياق التعلّمي إذا كانت حاضرة، وأنا قابلت دكتورة من أصل عربي أثارت موضوع ديني وناقشته بهجومية عالية. بعضهن متفرنسات أكثر من الفرنسيات أنفسهن، لكن تعرفت على مغربيات وجزائريات صححن هذه الفكرة.

مما أذهلني:

  • خلال الاختبار الكتابي كُنت أفكّر باللغة الإنقليزية وليس العربية – وهذه نتيجة طبيعية لإدخال الترجمة في تدريس اللغة -.
  • بعد فترة من شرحها بالإنقليزية، يصير كلام المعلمة بالنسبة لي مبهماً.
  • المعلمة كانت تتكلم الإنقليزية على القواعد الفرنسية: لاحقة الجمع في الفرنسية لا تُنطق، فهي لا تنطقها بالإنقليزية، مثلاً: there are many student، بدلاً عن: studentS – نفس الذي يحصل مع الطالبات.
  • أضفت لوحة المفاتيح الفرنسية، واشتركت ببعض القنوات التي تعلمها، لم اشترِ اي كتاب إضافي إلا في النهاية إذ أغنتني المواقع. مع ذلك تتفوق المواقع الإنقليزية – كما المعلمات – في أساليب الشرح والتوضيح وضرب الأمثلة والتسلسل في الانتقال وموضوعيتها الغالبة.

بعد الاختبار قدمت للمعلمة بعض أنواع الطعام التقليدي -كنت قد أعددت هدية أخرى، لكن غيرتها في آخر لحظة- وكان ممتعاً كتابة وصف كل نوع!

ماذا سأفعل؟

الكثير، حتى أني شعرت بحماس فائق لاستقبال الطالبات وتدريسهن – ابتُليت بهن وابتُلين بي : )

نُشرت بتاريخ 2/8/2017

كيف تخطّينا كل هذا؟

نُشرت ديسمبر، 2017 | التدوينة الاصلية

في الوقت الذي تقرأ هذه التدوينة، تذاكر طالباتي لأول الاختبارات النهائية غداً. أرجو أن تدعو لنا ألا نلتقي الفصل القادم .. لا أحب أن يرسب أحد.

سيودّعنا عام 2017 بعد أيّام، ليبدأ بعضهم تقليداً جميلاً وهو سرد الدروس التي تعلّمها أو ما أنجزه، منهم الأديبة جديلة التي  عرضت دورسها بأدب رفيع (لم تعد منشورة).

عام 2015 كان مزدحماً جداً بكل شيء، أما عام 2016 فلا أدري كيف مرّ، وأخيراً 2017 أزعم أني قضيت أغلبه في التأمّل. مما انتقل معي إلى هذا العام بدئي تجربة التدريس لطالبات البرامج التحضيرية.

بشّرني الكثير أن الجُهد المطلوب لتدريسهن لا يكاد يُذكر، فلما بدأت شعرت بارتباك؛ هل يقفن على مسرحٍ غير الذي أقف عليه الآن؟

أستقبل كُلّ فصل كائنات صغيرة، مُقبلة على الحياة ما بين خوف وجاء، بهجَة وتوجّس، حماس وهروب، مُصطحباتٍ كل ما عُوّدن عليه واكتسبنه خلال 12 عاماً؛ الوقوف مثلاً عند الإجابة، التعذّر بالذهاب لدورة المياه إذا ملّت من المُحاضرة، السواليف بالأوراق وغيرها. كمّية التلقائية السلوكية التي تمتلئ بها القاعات مُذهلة. كمّية الجُهد المبذول في التعامل مع هذه الفئة مهولة. أمّا الانعكاسات والانطباعات فقد اعتدتُ اجتماع الأضداد فيها.

لم أبتعد كثيراً عن مقاعد الدراسة  ( عام 2015 اختنق بها حتى آخر يومٍ فيه) حتى اعتقدتُ أنّي سأقضي حياتي بين الدراسة والاختبارات، حيث تُنتزع روحي عدة مرات في الفصل الواحد، لكن رؤية الوضع من علٍّ = مقام المعلّم، أراني بُعداً مختلفة لمِقعَدي، حتى صرت أتساءل: كيف تخطّينا كُلّ هذا؟

حين تستصعب على طالبة أجزاء الجملة البسيطة، أسترجع مشاعري مع القواعد البغيضة، حين أسمع “أوهو!”، أبتسم في سرّي لأنها ستكتشف أن ما يبهرها الآن عادي في عالم الكِبار، أمّا حين أعلم أن لديهن اختبار في غير مادتنا فإنّي أضمّ يدي إلى جناحي وأُحيط قلبي بأضلاعي ..  ربّاه! كيف تخطّينا كُلّ هذا؟

كيف تخطّينا همّ المعدل والمُستقبل، كيف تخطّينا سهر الليالي في إنهاء المشاريع، كيف تحمّلنا الأيام الطويلة والاختبارات المُتتاليّة، كيف تخطّينا حرّ المعامل وقرّ المكتبة، كيف تخطّينا عُنق الزجاجة وتيه التوجّه؟ .. “وكان فضلُ الله عليكَ عظيماً” ، أي والله عظيمٌ يا رب فضلك.

” كُلّه هيعدي .. متشغليش بالك.” ستتخطّى كل ما ظننته كؤود، وستبرأ الجروح كأنها لم تنزف، وستتعافى من التعب وتنهض، المهم أن تبذل وسعك – أقصاه لتتخطّى كل هذا بسلام وإلى سلام ، “وللآخرةُ خيرٌ لكَ من الأولى” .

جمالية الأُلفة وإِلفُ

يُبنى تلقّي العِلم على معارف المُتعلم السابقة وهو ما يسمى “schemata” ، وقد تعرفتُ على هذا المبدأ من مصادر أجنبية أو لأقلْ جمّلته لي وتطبيقاته في التدريس هذه المصادر. فحين تشرح مفهوماً جديداً، قدّم له بما يعرفه الطالب ثم اربط بين هذه المعرفة القديمة والمعرفة الجديدة.

استثمرتُ هذا هذا المبدأ في بعض المفاهيم التي لا يتقبّلها الطلبة ابتداءً مثل الأفعال الشاذّة

irregular verbs

لأنها غير منطقية بنظرهم، أو المتلازمات اللفظية

“collocations”

لأن المفعول به في الإنجليزية يختلف عنه في العربية وإن اتفقت اللغتان في الفعل. فأقدّم للمفهوم بالعربية مما يألفه المتلقي، ثم ما يُشابهه في الإنجليزية فتسكن نفسه ويسير الدرس على ما يُرام 🙂 .

مع ذلك لم أجد فيما أعرف من كتب عربية حول التدريس والتعلّم والعلم ما يعرض هذا المبدأ بنفس تلك الجمالية التي وجدتها في المصادر الأجنبية. شككتُ بسعيي وليس باللغة وتراثها لأنها لا تُعدمه حتماً.

حتى وقعتُ يوماً على من يذكر كتاب “جمالية الألفة” للدكتور شكري المبخوت، علمتُ أنّه تونسي، ولأهل المغرب عموماً طريقة فريدة في تناول مباحث اللغة. بحثتُ عن الكتاب ولم أجده للأسف لا في الشبكة ولا في معرض الكتاب المُقام آنذاك. وفي حديث شجي مع صديقة متخصصة بالعربية حول الحياة وجمالياتها ذكرتْه ثم أكرمتني بنسخةٍ منه، وتكون تلك الجلسة آخر جلسة قبل جائحة كوفيد19.

منذ سنتين وأنا أقرأ في الكتاب قليل الصفحات نسبياً عميق العرض جميل السّرد. تشعر بالدكتور يُخاطبك بلغةٍ عاليةٍ تفهمها وتستلذ بها ولا تستطيع مجاراتها ولا تريده أن ينتهي. يحكي لك أنّ السّلطان في الخطاب للمتلقي وليس لك، ومهما بلغ علمك أقبِل على من يسمعك بما يألفه ويستحسنه ثم أبدع له بما تُريد، ثم يفيض عليك بظاهرة التقبل وأنواع المتقبّل والذوق والجمالية والمألوف. ثم وأخيراً يفصل لك فيما يتعلّق بالشعر الذي هو أصل إلف العربي لما يسمعه.

فضلاً عن عفوية بلاغته في العرض، هوامش المؤلف متنٌ آخر، ومما يشترك فيه مع نظرائه المغاربة الإحاطة بالمفاهيم وفلسفاتها حتى في اللغات الأجنبية -وغالبها بالفرنسية- فيعقد المقارنات القليلة أو يحيل القارئ ليتبحّر.

يقول د. المبخوت عن سبب تأليف الكتاب :” لهذا سعينا إلى تلقّط تلك المادة الغُفل من مظانها ووصلناها بنظرتهم إلى الكتابة عموماً طامحين إلى الكشف عن النظام الخفيّ الذي يشدّ ما تفرّق منها والأساس النظري الذي تقوم عليه.”

لم أعرّف بالكتاب بما يليق به، لا شك عندي في ذلك، وما زلتُ تحت تأثير جمالية هذه الفكرة التي عمِل عليها د. المبخوت حين كان الباحث يتنقل بين الرفوف بنفسه وينسخ بيده ويعيد مسوداته، صدر الكتاب عام 1993، مع ذلك أدعو لقراءته كلّ مهتم ببناء الخطاب والجمال اللغوي والنقد الحداثي، والمتخصصين اللغويين طبعاً قبل غيرهم.

وقفة

د. شكري المبخوت أكاديمي وروائي وناقد، نال عدة عدة جوائز عالمية وتُرجم له للإنجليزية والإيطالية، ومن محكّمي قائمة البوكر الطويلة بالعربية، وعمره الآن 59 عاماً. يا لها من حياةٍ عريضة.

التدوينة الأصلية على أراجيك

ما هي قواك الخارقة؟

مقال نُشر في 13/4/2019

في أوّل أسبوع لي في التدريس الجامعي قيل لي: “ياما لك من قلّة الأدب والاستهتار.”

تتعامل في مجتمع الترجمة مع راشدين، قواعد التعامل هي القواعد الخلُقية والمهنية، وأعدادهم محدودة وتواصلك مع طرف واحد غالباً، واصغر من تعاملت معه كانت في السنة الثالثة في تخصص الترجمة. ثم وبعد اعتياد على هذا السياق الاجتماعي، أنتقل لسياق اجتماعي أوسع أقابل فيه يومياً ما لا يقل عن 100 كائن حيّ ( معدل الشعب ما بين 45 – 50 ، أدرّس ما بين 3 إلى 5 شعب )، ومع بداية كل فصل تصيببني عدوى في العين وتحسس في البشرة وإنفلونزا بسبب هذا التواصل مع هذا العدد الكبير.

Read More »

تتعامل في مجتمع الترجمة مع راشدين، قواعد التعامل هي القواعد الخلُقية والمهنية، وأعدادهم محدودة وتواصلك مع طرف واحد غالباً، واصغر من تعاملت معه كانت في السنة الثالثة في تخصص الترجمة. ثم وبعد اعتياد على هذا السياق الاجتماعي، أنتقل لسياق اجتماعي أوسع أقابل فيه يومياً ما لا يقل عن 100 كائن حيّ ( معدل الشعب ما بين 45 – 50 ، أدرّس ما بين 3 إلى 5 شعب )، ومع بداية كل فصل تصيببني عدوى في العين وتحسس في البشرة وإنفلونزا بسبب هذا التواصل مع هذا العدد الكبير.

Read More »